ما زالت الأبحاث في طورها الأول ولكن هنالك معطيات تبدو واضحة ودقيقة :
- تهديدات لأهالي قرية الروضة من قبل الجماعات السلفية الجهادية الإرهابية المتحصنة في صحراء سيناء.
- استهداف لجل سكان هذه القرية في يوم عطلتهم الأسبوعية وفي اكبر تجمع سكني ممكن لهم : في مسجد وهم يؤدون صلاة الجمعة..
- والمعطى الأساسي لفهم طبيعة هذا التحول أن هؤلاء الأهالي هم من المسلمين السنة ولهذه الجزئية أهمية قصوى كما سنرى..
لا يتسع المجال لنقف عند أهم التحولات في الفكر والممارسة لجماعات الإرهاب السلفي الجهادي المعولم ولكن بالإمكان أن نحقّب لهذه الجماعات كما يلي :
- ما قبل القاعدة
- القاعدة
- داعش
- ما بعد داعش
وما يهمنا في هذه المراحل الأربع هو طبيعة العدو كما يحددها الإرهاب الجهادي وطبيعة الفئات المستهدفة أي من يجوز قتلهم وفق النظرية الجهادية الإرهابية..
• تميزت فترة ما قبل القاعدة بتلمس سبل الفكر والممارسةللإرهاب الجهادي.. فبعض التيارات لم تكن سلفية بعد ،بالمعنى الدقيق للكلمة،وان كانت جهادية المعالم،أي تؤمن بالعنف المسلح كوسيلة أساسية للتغيير وهنا نتحدث عن المنظر الأبرز للإخوان المسلمين في الستينات سيد قطب وعن كتابه الشهير «معالم في الطريق» والذي كان بمثابة الإنجيل الأول للحركات الإرهابية الجهادية..
كما تميزت هذه الفترة بتراث خاص بالمملكة السعودية وبدعوة الوهابية للجهاد والتي تأسست عليها المملكة السعودية الثالثة سنة 1932..
في هذه الفترة العدو هو «الطاغوت» أي الحاكم الذي لا يحكم بما انزل الله ولكن لم نكن بعد نتوفر على ما سيسميه الإرهابيون فيما بعد بفقه الدم أي من يجوز قتله وما هي التبريرات «الفقهية» لذلك..
• مع القاعدة اتضحت الصورة واصبح معها الارهاب سلفيا وجهاديا ومعلوما وأفتى منظروها بقتل ما يسمى بالكافر الأصلي أي كل بشر غير مسلم ولم يعاهد المسلمين باعتبار أن الكافر الأصلي المسيحي مثلا ،هو دافع ضرائب في الدولة الأمريكية التي تحارب الإسلام حسب عقيدة هؤلاء وبالتالي يجوز قتل كل أمريكي أو أوروبي أو غيرهم من «الكفار الأصليين» لأنهم دافعو ضرائب لدول تعادي الإسلام..وكانوا يطلقون على هذا الصنف من الإرهاب «جهاد العدو البعيد»
أما على المستوى المحلي فيجوز قتل «كل أعوان الطاغوت» أي القوات الأمنية والعسكرية للنظم الإسلامية التي لا تطبق الشريعة كما يجوز عندهم قتل كل فرد مسلم ثبتت لديهم ردته،ولذلك قتلوا المفكرين والفنانين والإعلامي والسياسيين في الجزائر ومصر وتونس وغيرها .ولكن القاعدة لم تكن تشرع لقتل ما تسميهم بعوام المسلمين وذلك مهما كان مذهبهم أي سواء كانوا سنة أو شيعة على وجه الخصوص .
• مع داعش تواصلت نفس الأهداف ولكن أضيف لها عموم الشيعة باعتبار أن كل المذاهب التي تخالف «أهل السنة» هي مذاهب بدعية كفرية وبالتالي يصبح معتنقوها من العوام شبيهين بالكفار الأصليين ولو نطقوا بالشهادة وصلوا إلى القبلة وصاموا وحجوا..
وهذا التحول في استهداف المذاهب غير السنية من المسلمين وخاصة الشيعة، قد برز مع الأب الروحي لداعش : أبو مصعب الزرقاوي والذي أراد ان يجعل من استهداف عموم الشيعة عنصر جذب لسنة العراق في مواجهة الحكم الشيعي الموالي للأمريكان وذلك في منتصف العقد الماضي..
ولكن تنظيم داعش الإرهابي لم يكن يستهدف عامة المسلمين من أهل السنة وإن كان يعتقد بجهلهم لأساسيات الدين ولمعاني التوحيد ولوجوب الجهاد..
ولكن ما كان يسمي نفسه بتنظيم الدولة الإسلامية كان يقول بمبدإ فقهي مفاده ان الجاهل لا يؤخذ بجهله حتى يبين له من له صفة لذلك «العلم» الصحيح ومادامت «الطواغيت» تمنع وصول الإسلام «الصحيح» للعامة من مسلمي أهل السنة، فدمهم معصوم عندهم.
• الإرهاب ما بعد داعش بدأ يظهر منذ بعض سنين تماما كما ظهر الإرهاب الداعشي مع الزرقاوي قبل وجود تنظيم داعش..والإرهاب ما بعد الداعشي يقوم على مبدأ أن الجاهل لا يعذر بجهله خاصة إذا ما تمادى في طاعته لـ«الطاغوت» وتأييده له ضدّ «المسلمين» أي الجماعات الإرهابية ..وبهذا المعنى يصبح دم عموم أهل السنة (أي جلّ العرب وكل التونسيين مثلا) مباحا ما داموا من أنصار «الطاغوت» ولم يلتحقوا بمعسكر «الحق» الذي يمثله هذا الصنف الجديد من الإرهاب بل وكما رأينا الاقتتال بين أنصار القاعدة وأنصار داعش ،فكذلك بدا الاقتتال بين جماعات داعش الأصلية وجماعات ما بعد داعش ..
تكون عملية الروضة بهذا المعنى أول عملية إرهابية في هذه المرحلة الرابعة والأخيرة لتستهدف عموم المسلمين من أهل السنة..
بعبارة أوضح ستسعى الشظايا الإرهابية ما بعد الداعشية إلى استهداف كل المدنيين العزل في البلاد العربية الإسلامية باعتبار أن قتل المدنيين العزل هو «جهاد» مشروع..
لقد تحدثنا في مناسبات سابقة عن هذا النوع الجديد من المخاطر الإرهابية التي تهدد بلادنا وسائر بلاد المسلمين ،وها أن ضربة البداية لهذا الكابوس الدموي انطلقت من مصر ولا ينبغي أن نعتقد بأننا في مأمن من هذا الصنف من الاستهداف الإرهابي ما بعد الداعشي..
نحن لا نقول بان كل الجماعات الإرهابية ستتبنى هذا الصنف من التفكير والممارسة فالتحقيبات الأربعة التي اشرنا إليها لا تعني تسلسلا زمنيا بل تسلسلا في المنطق العدمي للقتل والدمار أي أننا سوف نشهد في نفس الوقت ممارسات إرهابية تنتمي إلى القاعدة وداعش وما بعد داعش ،و تكون هذه التنظيمات تارة في صراع دموي بينها لبسط نفوذها على العمل الإرهابي السلفي الجهادي المعولم وتارة في تناغم وتنسيق ضد عدوها المشترك ومرات أخرى في حالة تعايش بين هذا وذاك..
وبقدر ما يمكن للشظايا الإرهابية ما بعد داعش إلحاق الضرر والموت والدمار بأعداد كبيرة من المواطنين كما حصل ذلك في الروضة بقدر ما يعيش الإرهاب السلفي الجهادي المعولم فترته الأخيرة وفي مربع يضيق عليه يوما بعد يوم..
ونعتقد انه حان الوقت في تونس لنستبق هذا الصنف الجديد من المخاطر الإرهابية فهذا يتطلب منا جميعا يقظة اكبر واحتياطات اهم في كل مجالات الفضاءات العمومية من إدارات ومؤسسات ومدارس وكليات ومستشفيات ومساجد ومساحات تجارية ومقاهي ومطاعم ..
لا ينبغي أن يدبّ الهلع في نفوسنا ..وينبغي أن نثق بأن بلادنا قد ربحت نهائيا معركتها ضد الإرهاب ولكن نريد أن نخفف على الأقصى من كلفتها البشرية والمادية ومن مدتها الزمنية كذلك..
وينبغي أن نثق أيضا بأن قواتنا الأمنية والعسكرية بصدد القيام بعمل كبير وأنها بصدد تفكيك الشبكات بصفة تكاد تكون يومية وأن مصالح الاستعلامات تستبق حتى مجرد المشاريع الهلامية ..ولكن لو قررت بعض جماعات الدم والوحشية استهداف تجمعات للمواطنين العزل فلابد أن نضيف إلى الجهد المبذول من قبل وزارتي الداخلية والدفاع جهدا مواطنيا ومؤسساتيا ويقظة من الجميع حتى لا نترك لهذا الوباء إمكانية الانتشار والتمدد..