فمن العجب العجاب أن يلصق الفرينة في هذه البلاد كل نعوت التحقير والتهوين والحال أنها عماد الحياة كلّها ونحن نستوردها أو نستورد القمح اللين،بالعملة الصعبة ونرسلها إلى الطواحين ثم إلى المخابز وندعمها وندعم من يقتنيها فهي عماد الخبز والرمز الأمثل لمجتمع الكفاف ،ورغم ذلك عندما نريد شتم سياسي أو إعلامي أو مواطن «عادي» كما يقال (وكأن الآخرين جاؤونا من المريخ) نقول له «فرينة» فهي قمّة السباب الذي ما بعده سباب..
وعندما نريد فهم ما يعاب على «الفرينة» قبل الطاحونة وبعدها يقال لنا أنها «القفّة» المبالغ فيها !! نعم «القفة» المبالغ فيها في بلاد يكثر فيها النديب والعويل على «قفة «الزوالي ..فهل تكون «القفة» المبالغ فيها إثما بينما نتباكى جميعنا على «قفة الزوالي ؟ !
قلت في نفسي لعل أهالي بلاد شيوخ القبائل يلعنون الفرينة لأنها مدعمة فقيل لي لا وألف لا إنهم يلعنون جميع أصناف الفرينة من الشعبية المدعمة إلى الأنواع الفاخرة والتي تصنع منها الحلويات الراقية..
ينبغي ان تمكث طويلا في بلاد شيوخ القبائل لكي تفهم بأن الفرينة عندهم هي عنوان السفالة الكبرى وأنهم استحاضوا عن كلمة جميلة ذات دلالة واضحة ومباشرة وهي «التلحيس» بكلمة يحف بها الغموض وتلتبس السبل على الغريب عن بلادهم ..
واغرب الغريب في قصة العبث هذه أن بلاد شيوخ القبائل قد أضحت شبيهة بمدينة الفلاسفة ،لا مدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون والفارابي بل تلك التي لا يصح ان يقال عنها مدينة بل حالة بشرية سابقة عن التمدن والتاريخ والدولة ،حالة الطبيعة حيث يكون الكل في حرب ضد الكل ويكون الإنسان ذئبا للإنسان ..ففي قصص شيوخ القبائل الكلّ هو فرينة للكل والكل أيضا فارينة بالنسبة للكل..والكل أيضا يمكن أن يكون فرينة للكل..
ولا ينجو من هذه الرياضة الوطنية إلا من كانت له حساسية مفرطة ضد القمح اللين وكل مشتقاته ولتأكيد المناعة فلا بأس من حساسية مفرطة تجاه كل أصناف الحبوب..بما فيها حبوب الهلوسة..
فالفرينة مذمومة فقط عندما يستعملها الغير ،أما عندما نستعملها نحن فتصبح ذكاء وفطنة والعمل على توفير كل «أسباب النجاح» فالفرينة الفاخرة – وإن لم تجد فلتكن الفرينة المدعمة – تسهّل العلاقات وتساعد على قضاء الشؤون..فرينة من هنا وفرينة من هناك وتكون أمورك كلّها «في الجبن» ..
حذار ثم حذار أن يذهب في ظنك أن الفرينة هي التملق أو الرياء أو المديح الكاذب او النفاق فالفرينة هي كل هذا وأكثر ..انها تعبّد كل الطرقات في بلاد شيوخ القبائل : الطرقات السيارة والطرقات السريعة وطرقات الأحياء السكنية في غياب الأمطار وبحضورها أيضا وحتى المسالك الفلاحية قد نعمت بنعم الفرينة ..
ففي بلاد شيوخ القبائل لا صوت يعلو فوق صوت الفرينة ،فكم من حكومة قامت على بنيان مرصوص من الفرينة وكم من حكومة أسقطت بسببها ..
في بلاد شيوخ القبائل تستعمل الفرينة في كل الاتجاهات وفي كل الأوساط فلا تعتقد أننا أمام وسيلة انتهازية للوصول إلى غاية محددة ،فالفرينة في بلاد شيوخ القبائل نمط حياة..إنها كيمياء الحياة..إنها الفيزيقا والميتافيزيقا..
اي عالم الظاهر وعالم الباطن في نفس الوقت ..
في الحقيقة التشويش حول الفرينة ناتج عن الحسد الساري في بلاد شيوخ القبائل فالكل يريد الفرينة لنفسه لا غير..فهو لا يريد أن يرى نعمة الفرينة عند غيره فيصفها بأقذع النعوت لتتعفف عنها النفوس المريضة وتبقى الفرينة حكرا على بعضهم بتعلة توجيه الفرينة إلى مستحقيها فقط لا غير ..
مساكين هو سكان بعض المناطق في شمال الكرة الأرضية فالفرينة عندهم ليست مدعمة وبعض الغاضبين والحانقين على «النظام» هناك يستعملونها كسلاح يوجه ضد الأقوياء ..
اه لو علموا قيمة الفرينة ومختلف استعمالاتها الذكية في بلاد شيوخ القبائل لاقتصدوا في الغضب ولعلموا ان الفرينة اثمن من أن ترمي على وجوه الأقوياء..
تنبيه أخير يخص كل حكومة منتصبة في بلاد شيوخ القبائل : ان من يفكر منكم في رفع الدعم عن الفرينة سوف يعرّض نفسه لمصير دون كيخوت : محاربة طواحين الهواء في الصحراء..