هنالك رهانان أساسيان لهذه الحرب الخفية تارة والمعلنة في بعض تفاصيلها طورا آخر وهما : إطلاق اليد في التعيينات والانتخابات الرئاسية لـ2019..
لقد أصبح من الجلي منذ أن أبعد حافظ قائد السبسي آخر منافسيه من قيادة الحزب في «مؤتمر سوسة» في جانفي 2016 بأنه يريد وضع اليد لا فقط على الحزب الفائز في الانتخابات بل وأيضا على أهم مفاصل الدولة بسلسلة من التعيينات الزبونية التي تضمن له شبكة واسعة من الولاءات على المستوى الوطني والجهوي والمحلي..
وعندما تلكأ الحبيب الصيد رئيس الحكومة السابق في الاستجابة لبعضها تم الطلاق بينه وبين الأغلبية الحاكمة بحجة كانت فيها وجاهة كبيرة : البلاد تراوح مكانها ولا تتقدم في طريق الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بل هي بصدد الغرق البطيء بفعل الحذر المفرط للحبيب الصيد..
بعيد تعيين يوسف الشاهد على رأس الحكومة الجديدة والتي أريد لها أن تكون حكومة «وحدة وطنية» عادت حليمة إلى عادتها القديمة والمدّ والجزر حول بعض التسميات من الوزراء إلى الولاة والرؤساء المديرين العامين والمعتمدين..
ولكن انضاف عنصر جديد منذ الربيع الفارط وهو سؤال أرّق ويؤرق جماعة البحيرة (المقر المركزي لنداء تونس ) : هل قرر يوسف الشاهد الانتصاب للحساب الخاص ؟ أي هل قرر الترشح لرئاسة الجمهورية دون طلب تزكية حزبه ؟ وهل احاط نفسه بحزام عصي عن كل اختراق ندائي للإعداد والاستعداد لهذا الاستحقاق المركزي في الحياة السياسية والمؤسساتية في تونس ؟
وكما كان يعمد القدامى إلى «القتل بالريبة» بحجّة أن قتل أبرياء كثر أفضل ،في السياسة،من ترك خصم عنيد على قيد الحياة ،كذلك الشأن في القيادة الجديدة لنداء تونس : إسقاط حكومة قد يفكر رئيسها في الترشح للرئاسية أفضل من تركها تعمل لأنها حينها قد «تهرب بالقطعية»
وكما قلنا ذلك في مناسبة سابقة فإنّ النداء وحليفيه في «الترويكا الجديدة» (النهضة والوطني الحرّ) لن يتركوا حكومة الشاهد بصيغتها الحالية تقترب من سنة 2019 وأنهم قد يتخلصون منها خلال السداسي الأول من السنة القادمة إمّا بتحويل طبيعتها وفرض ذلك على رئيسها أو بدفعه دفعا إلى الاستقالة والانسحاب..
والسؤال الآن هو أمام هذه الخطة شبه الواضحة ما هي الممكنات المتاحة لصاحب القصبة الحالي ؟
ينبغي أن ندرك بداية أن سحب الثقة من حكومة الشاهد ستكون عملية أعسر بكثير من تلك التي حصلت مع الحبيب الصيد ، لأن ذلك يفترض بداية مبادرة جديدة من رئيس الجمهورية وهو أمر مازال مستبعدا إلى الآن ،ثم والأهم من كل ذلك هو إقناع جلّ الفاعلين الاجتماعيين والرأي العام الوطني والدولي بأنه بإمكان أغلبية معينة أن تقوم بتجربتين من هذا الصنف وسط عهدة انتخابية واحدة ،فحكومة الشاهد بهذا المعنى هي الخرطوشة الأخيرة لهذه الأغلبية وبإسقاطها قد يسقط البناء كله..
وعليه فالأرجح أن يكون سيناريو الإسقاط على غير شاكلة ما حصل مع الحبيب الصيد وانه قد يعتمد على حرب ناعمة من صنف فرض تنازلات قوية على يوسف الشاهد فإما أن يقبل بها وينتهي أمره أو أن يرفضها ويكون الطريق الوحيد أمامه هو الاستقالة..
فهذا هو عنصر القوة الأول عند يوسف الشاهد : شبه استحالة سحب الثقة عنه عبر مجلس نواب الشعب.
نقطة القوة الثانية هي أن المنظمات الاجتماعية وخاصة اتحاد الشغل لن تقبل بإسقاط هذه الحكومة لان هذا الصنيع، بالنسبة لها، هو عين العبث.. وقد سبق لاتحاد الشغل أن تدخل بكل ثقله في أوت الماضي لوقف الطلق الناري المزدوج «لأفندينا» و«ولد سيدنا» .
نقطة القوة الثالثة هي التعاطف الشعبي الواضح مع يوسف الشاهد ،وهو ما افتقده سلفه الحبيب الصيد ولكن نقاط القوة الثلاث هذه لا تجعل حكومة يوسف الشاهد في مأمن خاصة إذا ما دخلت في صراع مفتوح مع «الترويكا» الجديدة التي تملك أغلبية مريحة في البرلمان..
ويبدو أن يوسف الشاهد متوجس من كل مواجهة مفتوحة مع رجل البحيرة القوي حافظ قائد السبسي فهولا يريد استفزازه ولا الخضوع لكل رغباته في نفس الوقت ،ولكن الطريق السالكة بين الأمرين ضيقة للغاية والدليل على ذلك هو انتظار شهر كامل لتعيين وزير ..بالنيابة على رأس وزارة الصحة ، وذلك لان رئيس الحكومة لا يريد أن ينصّب في هذه الوزارة لا مرشح نداء تونس ولا مرشح يختاره هو فاختار اللاحلّ واللاقرار..
هذا هو الفخ الأساسي الذي ينتظر يوسف الشاهد في كل قرار سيدعى لاتخاذه : اللاقرار حتى لا يغضب أحدا بالكلية ولا يرضيه كذلك بالكلّية..
والخطر كل الخطر هو أن يكفّ يوسف الشاهد عن الاضطلاع بدوره كاملا كالرئيس الفعلي الأساسي للسلطة التنفيذية وأن يقنع بما هو دون منصب الوزير الأول أحيانا تاركا المبادرة السياسية الأساسية بيد قرطاج في حين انه هو المسؤول دستوريا عن التسيير الحصري لكامل السلطة التنفيذية ما عدى الدفاع والعلاقات الخارجية ،ولكننا نرى رئيس حكومة ما انفك يحصر دوره في المسائل التقنية إذا ما استثنينا الحرب التي شنها على الفساد وبارونات التهريب والتي لم تجد بعد نفسها الثاني بعد الزخم الكبير التي عرفته في شهري ماي وجوان الماضيين..
يبدو أن الخوف من ارتكاب أخطاء هو الذي يكبل اليوم صاحب القصبة ويجعله يحترز من كل مبادرة قد يساء فهمها وقد يؤولها خصومه باعتبارها حملة انتخابية سابقة لأوانها ..
يقول القدامى : «الحيلة في ترك الحيل» وما أكثر الحيل في عالم السياسة وخاصة تلك التي يتفنن في إبداعها من يدّعون أنهم خبراء الاتصال السياسي والتي عادة ما يصدقها السياسيون ظنا منهم أنها طريق النجاة والحال أن لا شيء يعوض الصدق مع الذات ومع الآخرين في المضمون بالطبع ولكن حتى في الشكل ..فالسياسة في احد أبعادها خاصة عند القادة والزعماء هي علاقة تكاد تكون جسدية بينهم وبين الناس..
أسوأ ما يصاب به السياسي هو أن يتراجع عن برامجه وإصلاحاتها بحكم التكتيك الذي قد يفرضه عليه «خبراء» الاتصال السياسي..
لا يطلب أحد من يوسف الشاهد بأن يخوض حربا ضدّ حزبه أو ضدّ هذه الترويكا الجديدة فهذا أسلوب مغامر لا فائدة فيه لأحد ولكن يطلب كل التونسيين من رئيس حكومتهم أن يواصل بكل قوة حربه على الفساد وألا يقتصر فيها على بعض «الحيتان» الوسطى والصغرى وألا يهاب أوساط النفوذ المالي والسياسي والإعلامي وأن يتقدم في إصلاحات جوهرية وعميقة لجلّ منظومتنا الاجتماعية والاقتصادية دون أن يلتفت ذات اليمين وذات الشمال ..
هنالك من رأى في صاحب القصبة أملا في التجديد وفي بناء تونس الغد، فليكن كذلك دون أن يستنزف كل طاقاته في التوقي من الفخاخ الكثيرة المنصوبة وسط الطريق وفي أطرافه أيضا ..
قد يضطرك خصمك أحيانا إلى حرب لم تردها والشاطر هو من يختار ميدان المعركة على الأقل إن لم يكن قادرا على اختيار توقيتها ..