لا أحد يمكنه أن ينكر الآن أن سعد الحريري يتكلم باسم الرغبات السياسية السعودية والسؤال فقط هل هو مقتنع تماما بهذا الدور الجديد الذي يراد له أن يقوم به داخل بلاده أم أن هنالك مقادير معينة من الإكراه..
هذا السؤال قد فقد من أهميته التفسيرية لمجريات الأحداث وإن كان يبقى جوهريا في العرف الديبلوماسي لأننا قد نكون أمام سابقة تاريخية في العلاقات الدولية..
ما تريده السعودية من خلال تصريحات الحريري هو أن تحصل تسوية جديدة في لبنان يرغم بمقتضاه حزب الله على «النأي بالنفس» عن كل ساحات القتال الإقليمية وخاصة من سوريا واليمن ..
فالمملكة السعودية التي خسرت رهانيها في العراق وسوريا تريد تسجيل انتصار سريع في اليمن ، يعني أنها قد تكون مستعدة لغض البصر،مؤقتا،عن الدور السوري لحزب الله في سوريا لكن لا مجال لقبول بتدخله مهما كان حجم هذا التدخل في اليمن والمملكة ليست مستعدة لحرب استنزاف على حدودها الجنوبية بفعل السلاح الإيراني والخبرات القتالية لحزب الله.
لا نملك معلومات دقيقة محايدة عن دور حزب الله في اليمن ولكن لا أحد يمكنه إنكار الانخراط السياسي والمذهبي لحزب الله مع جماعة الحوثي ولا العلاقات الوثيقة بين الحركة الزيدية (جماعة الحوثي) والقيادة الإيرانية..
ويبدو أن السلطة السعودية تخشى من وفود مقاتلين شيعة إلى اليمن سواء انتموا إلى حزب الله اللبناني أو الى جماعات الحشد الشعبي العراقي ولهذا نراها تصر على غلق الحدود الجوية والبحرية لجارها الجنوبي تجنبا لإمدادات الأسلحة والمليشيات خاصة عبر الحدود البحرية..
فلا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن السعودية قد تورطت في حرب استنزاف في اليمن منذ أكثر من سنتين ونصف بينما كانت تعتقد أن أسابيع قليلة كافية لدرء تقدم الحوثيين وحليفهم الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح تماما كما كان الحال قبل ذلك في البحرين لقمع انتفاضة الأغلبية الشيعية هنالك ..ولكن اتضح خطأ هذا التقدير إذ رغم السيطرة السعودية على الأجواء إلا أنها لم تتمكن بعد من السيطرة على الارض ولا حتى في الحد من الوجود الحوثي المقاتل ..بل حصل للمملكة ما هو أسوأ من ذلك إذ بدأت الفصائل اليمنية القريبة من الرياض (كجماعات الحراك الجنوبي أي القوى الداعية إلى انفصال الجنوب) تعتبر أن السعودية والإمارات إنما هي قوى احتلال وتطالب برحيل جيوشهما أي أن الزمن أصبح يلعب ضد المملكة الوهابية وانه ينبغي عليها ألا تطيل بقاءها العسكري هنالك ولكن هذا يتطلب تحقيق فوز عسكري واضح يسمح للحكومة المعترف بها دوليا، والتي تدخلت السعودية بعد طلب منها، أن تكون قادرة على السيطرة الميدانية..
ومن ذا الذي يفسد على السعودية خطتها؟ القوى المسلحة المعادية لها على الميدان ولاشك أي جماعة الحوثي والقبائل الموالية لعلي عبد الله صالح ،ولكن أيضا الإمدادات بالسلاح والعتاد والخبرات المتدفقة عليها -وان بنسبة متواضعة – من إيران ومن خبرة حرب المدن التي يملكها حزب الله. لهذا ارتبط الانتصار على اليمن بتغيير المعادلة السياسية في لبنان..
ليس خافيا على أحد غضب السعودية على حليفها الأساسي في بلاد الفينيقيين : سعد الحريري وحزبه إذ لم يتمكن رئيس الوزراء من الحدّ من الدور الإقليمي لحزب الله بل الأنكى من ذلك انه لم يقدر على الاعتراض على إرسال سفير جديد إلى سوريا قررته الحكومة اللبنانية يوم 30 أكتوبر الماضي .. وهكذا اتضح للقيادة الجديدة في السعودية ان بقاء سعد الحريري على رأس الحكومة البنانية بهذه الشاكلة أصبح مضرا بالمصالح السعودية الإستراتيجية.
عندما مررت السعودية تصنيف حزب الله كتنظيم إرهابي في اجتماع للجامعة العربية في مارس 2016 اعترضت لبنان على ذلك وقد اجابت المملكة حينها بسحب بعض استثماراتها ومساعداتها..حينها كانت لبنان تعيش حالة أزمة حكومية وكانت المملكة تتوقع انه مع صعود سعد الحريري من جديد إلى رئاسة الحكومة في ديسمبر 2016 أنها ستجد أذانا صاغية لمطالبها وان الحكومة الجديدة ستعمل على تحجيم الدور الإقليمي لحزب الله على الأقل ..
ولكن كل ذلك لم يحصل بل تمدد حزب الله لبنانيا وإقليميا وتغيرت موازين القوى في العراق وسوريا لصالح قوى مناهضة للمملكة السعودية.
يبدو ان حكام السعودية قد لعبوا إحدى أهم أوراقهم الديبلوماسية وبصفة خطرة عندما كانوا وراء استقالة سعد الحريري بهذه الطريقة بقصد إحداث «رجة نفسية» داخل الساحة اللبنانية ..ولكن هل سيتمكن سعد الحريري عندما يعود إلى لبنان من إقناع ناخبيه من السنّة أولا وبقية الطوائف الأخرى وخاصة المارونيين بأن الحل الوحيد هو فرض «النأي بالنفس» على حزب الله وإجباره على الاقتصار على العمل داخل لبنان فقط ؟
لا نجازف كثيرا لو قلنا بأن المملكة السعودية تلعب بالنار حاليا فالتوسيع المفاجئ لرقعة الصراعات الإقليمية بعد مقاطعة قطر في جوان الماضي والتهديد المبطن للبنان في نوفمبر وصراعات الحكم في الداخل كل هذا قد يعرضها إلى فقدان ذلك التعاطف الناجم عن الإجراءات الإصلاحية الذي أقدم عليها ولي العهد الشاب محمد بن سلمان .. إذ من الصعب تمرير صورتي الإصلاح والقبضة الحديدية داخليا وإقليميا في نفس الوقت..
الأسابيع القادمة ستكون ساخنة وحاسمة في كل واجهات الصراع المفتوحة اليوم في الشرق الأوسط ..