ولكن في القدامى هنالك دهاء ومكر وخبث وفيهم من يريد أن يقهقه، وهو في قبره بعد أن مرّ باستنطاق ناكر وناكير، على ذقون أبناء هذا العصر فترك لهم أمثلة شعبية حمّالة لأوجه لا يتضح فيها دائما الخيط الأبيض من الخيط الأسود من العبث..
قال الأوائل: «ولد الفار يطلع حفّار» في إشارة عابرة للعصور والقارات بأنّ التوريث أصيل في البشر وأنه غاية الحياة وأن «الحفران» يتطلب خبرة أجيال متعاقبة تماما كالملك العضوض ..
خبرة تنتقل عبر الأرحام باكرا عن باكر .. ولكن بعض الأوائل، غفر الله لنا ولهم هزلهم ومكرهم تركوا لنا حكمة محيّرة مفادها أنّ «النار تخلّف الرماد» أي أن الوراثة الجينية مآلها الفناء وأنه بالإمكان توريث العناصر الثلاثة: التراب والماء والهواء أما العنصر الرابع والذي كان وراء لعنة إبليس فلا توارث فيه .. فالنار لا ترث ولا تورّث وإن سعى أحدهم إلى مغالبة قوانين الطبيعة وأن يخصّ نسله دون سواه بالنار المقدسة فلن يجني غير الرماد أي بعبارة العناصر الأربعة: التراب والهواء.. وأن كل من يسعى لسرقة سرّ النار المقدّسة سيصاب إن آجلا أو عاجلا بلعنة بروميثيوس..
في بلاد شيوخ القبائل لا وجود لمستحيل، فمن المشائخ من تجمّد يداه الماء الزلال ومنهم من استفاد من أخطاء بروميثيوس فلم يخف سرقته للنار المقدّسة بل تفاخر بها وادعى أنه كان سباقا لحيلة الحيل هذه اذ تحدى المستحيل بتقسيمه إلى حزبين كبيرين: حزب المس وقد اختص به كبار الجان فأصبح يُقال: فلان قد مسّه الجنون وحزب التحيّل ومنه سلالة كل مزودي القوارب الشراعية بالريح..
لقد أناطت شيوخ القبائل مهمة التوفيق بين حكمتي القدامى المتناقضتين إلى الشيخ العفريت الهارب بعلبة الكبريت، بروميثيوس العصر المالك لأسرار التأويل والبارع في نظم الأقاويل، صانع الوفاق دون منازع رغم كيد الحاقدين ...
أطرق الشيخ العفريت مليا، ففكر ثمّ قدّر ثمّ أجال النظر وأحاط بما تيسّر في لمح من البصر وصمت وترنح والأعناق مشرئبة إليه متشوقة لحكم آخر الزمان، الحكم التي تضاهي ما قاله الأوائل من العربان..
قال الشيخ العفريت: القدامى لا ينطقون من فراغ فالأساس هو أن «ولد الفار يطلع حفار» فاطمأن الحاضرون وهللوا وكبّروا فقاطعهم الشيخ العفريت مزمجرا: ولكن حذار.. حذار.. فالنار ستؤول حتما الى رماد لو لم تجد من يتعهدها ويرعاها ويسدد خطاها.. فنحن لا نملك ردّ القضاء ولكن نملك التخفيف فيه وإطالة أمد وعهد النار المقدسة جيلا عن جيل، فلا أقل من مغالبة القاعدة الخلدونية «جيل التعب وجيل الذهب وجيل الحطب» فنختزل إلى الأقصى في جيل التعب ونطيل ما أمكن في أجيال الذهب ثم إن حلّ بنا جيل الحطب المرحلة قبل الأخيرة من الرماد، فلا حول ولا قوة إلا بالله..
بعد هذه الحكم التي أتت على أفضل ما جاء به الأوائل والأواخر قام زعيم الحرباء الملتحق مؤخرا بحلقة الشيخ العفريت والحريص اليوم على دوام النار المقدسة بعد أن كان من أشد العاملين على اطفائها في المهد.. قام زعيم الحرباء خطيبا: لِمَ نرضى بالدنية ونحن الأعلون؟! فالنار المقدسة عندنا وسنتوارثها حصريا جيلا بعد جيل... «قاعدين قاعدين ماناش مروحين وماناش مسيّبين»..
تكلم زعيم الحرباء بحماسة لا نظير لها فنظر إليه الشيخ العفريت والابن العنيد وهمس الابن في أذن الشيخ: هل يمكن أن نثق في الحرباء؟ ألم يغدر بنا سابقا؟ تنحنح الشيخ ونتف شعرة من لحيته وقال: يا بني تحضرني حكمة افرنجية تزعم بأنه يجب أن نشعل النار من كل أصناف الخشب، فزعيم الحرباء له عيوب كثيرة ولكنه يُجيد ركوب كل أنواع الخشب.. صحيح أنه فقد الكثير ولكن أعداءنا كثر يريدون استئصالنا من الوجود وأهل الوفاق قليل عددهم ونخشى على سفينتنا من كثرة الشقوق، فلن نكون في غنى عن بعض الخشب حتى عندما يكون حربائيا...
آه من حِكَم الأوائل.. لِمَ لم يحسموا مسألة توريث النار المقدسة؟! فما بين الحفّار والرماد بعد المشرقين والمغربين.. تطمينات الشيخ العفريت وتأويلاته لم تهدئ من روع الإبن ولا كذلك الالتحاق المتأخر لزعيم الحرباء.. الكل يريد افتكاك النار المقدسة... الكل يريد تحويل أحلامه إلى رماد..
آه من دهاء وخبث الأوائل ...