مشروع قانون المالية لسنة 2018: الأعراف غاضبون

منذ نشر التسريبات الأولى حول مشروع قانون المالية لسنة 2018 عبّر الأعراف عبر منظمتهم الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية عن تخوفهم من بعض الإجراءات التي تنوي الحكومة اتخاذها في السنة القادمة والتي يذهب جلّها في اتجاه فرض ضرائب والتزامات جديدة على المؤسسة الاقتصادية المنظمة..

أما بعد إيداع مشروع قانون المالية بمجلس نواب الشعب فقد تحولت هذه المخاوف إلى غضب والى إحساس بأن الحكومة وإن استمعت إلى مطالب واقتراحات أصحاب المؤسسات إلا أنها لم تنصت إليهم ولم تأخذ «بتاتا بعين الاعتبار المقترحات والتوصيات» التي ضمنوها في الوثيقة التي بينـت رؤية منظمـة الأعراف لمكونات «خطة الإنقاذ الاقتصادي».
هذا بعض ما جاء في بيان المجلس الإداري لاتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية الملتئم يوم أول أمس والذي خلص إلى أن «ما جاء في مشروع قانون المالية لسنة 2018 يمس من ديمومة المؤسسة الاقتصادية ويهدد استقرارها ووجودها»
ولهذه الاعتبارات أبقى المجلس الإداري أشغاله مفتوحة بما يوحي باستعداد منظمة الأعراف للتفكير في أشكال أخرى من الاحتجاج.

غضب الأعراف من السياسة الجبائية للحكومة ليس جديدا فنحن نعلم أنهم قبلوا المساهمة الاستثنائية بـ%7.5 إضافية في الضريبة على الشركات للسنة الحالية بامتعاض كبير ولكن منظمتهم قدرت أن الوضع الصعب جدا للمالية العمومية يقتضي تقديم بعض التضحيات ولكن ما ساء اتحاد الصناعة والتجارة أن حكومة الشاهد وعلى امتداد الإعداد لقانوني المالية الأخيرين (2017 و2018) تهتم بمسالة واحدة وحيدة : الحصول على موافقة اتحاد الشغل أو على الأقل على عدم اعتراض قوي من قبله وفي سبيل ذلك تتنازل الحكومة وتقدم بعض «الهدايا» أما عندما يتعلق الأمر بأصحاب المؤسسات فهي توحي بأنها تتفاوض معهم ولكن عندما تقدم إلى مجلس نواب الشعب النسخة الرسمية لمشروع قانون المالية فلا يجد فيها الأعراف أي صدى لمشاغلهم واقتراحاتهم وتصوراتهم.

ولكن استياء صاحبات وأصحاب المؤسسات لا يعود فقط إلى موقف الحكومة من مقترحاتهم بل لإحساس اعم بان هنالك شيطنة لهم وتقديمهم في صورة النّهم الجشع الذي لا يفكر إلا في الربح السريع على حساب العمال وتحقير عملهم واجتهادهم وإبداعهم للحفاظ على المؤسسة التي يديرونها ولتنمية قدراتها بإعادة الاستثمار فيها قصد اقتحام أسواق جديدة والمحافظة على القوة العاملة فيها بل وتدعيمها..أي أن النخب السياسية والإعلامية وصناع الرأي العام لا يحتفون بالمؤسسة الاقتصادية ولا يبرزون نجاحاتها ولا دورها في المساهمة في تنمية البلاد وفي توفير مواطن الشغل وفي تثمين العمل والنجاح بل سرعان ما يتم اتهام أصحاب المؤسسات بالولوغ في مختلف أشكال الفساد من تهرب جبائي وتهريب وهضم لحقوق العمال أو في أحسن الأحوال بالجبن لأنهم لا يستثمرون في المناطق الداخلية بما فيه الكفاية ولا يغامرون فيها بأموالهم وخبراتهم..أي في نهاية الأمر يصدق على أصحاب المؤسسات المثل الشعبي «كي الحوت متآكل ومذموم»..وما عمّق هذه الصورة السيئة هو جهل النخب السياسية والإعلامية والحقوقية الجديدة بالواقع الفعلي للمؤسسة الاقتصادية والدور الاقتصادي والاجتماعي الأساسي لصاحبات وأصحاب المؤسسات.

أي وكأنّ الأعراف بين فكي كماشة : حكومة لا تنصت ورأي عام لا ينصف.. وكل حدي المعادلة يتغذى من الثاني وينتج عنهما مجتمعين أن الحل الوحيد لإنقاذ البلاد هو مزيد من الضرائب على أصحاب المؤسسات المرادفين في المخيال الشعبي للأثرياء..
لاشك أن هنالك مبالغات في هذه المخاوف والتوجسات ولكن لا يمكننا أن نلغي بجرة قلم هذا الإحساس المتفاقم عند صاحبات وأصحاب المؤسسات فالصورة مهمة جدا في كل مجتمع .ومجتمع لا يثمن النجاح لا يؤمن في نهاية الأمر بقيمة العمل ولا يقرّ بالتفوق على أساسها..

والمفارقة الكبرى أن الجميع من حكومة ونقابات ونخب يقرون اليوم بأن القطاع العام لم يعد بإمكانه تقديم تشغيلية إضافية ولكننا لا نستنتج من ذلك النتيجة الطبيعية وهي تثمين الدور الأساسي للمؤسسة الاقتصادية لمحاربة آفة البطالة ..وعندما نتحدث عن أصحاب العمل فنحن عادة ما نفكر في المسؤولين الأول عن المجامع الصناعية والخدماتية الكبرى وننسى أن هذا المفهوم (أصحاب المؤسسات) يشمل كل باعث مشروع حتى لو لم يشغّل إلا صاحبه فقط وانه يشمل أيضا عندما نتوسع فيه كل أصحاب المهن والحرف وأنّ الانتصاب للحساب الخاص مغامرة غير مضمونة ولكن دون هذه المغامرة لا نمو ولا تنمية وأنّ الشعوب المتفوقة هي تلك التي تعلي من شان هذه المغامرة وتدعو للاقتداء بنجاحاتها ..
قد يقول قائل : وما علاقة كل هذا بمشروع قانون المالية وبفصوله الجبائية والتقنية ؟

العلاقة مصيرية فمجتمع يثمن النجاح يوفر كل الظروف الملائمة الاجتماعية والقانونية والمالية والجبائية لنجاح المؤسسة ..فأوّل ما تطلبه المؤسسة الاقتصادية هو وضوح واستمرار قاعدة اللعبة لا أن نغير كل سنة في بعض عناصرها وحكومة تراهن على نجاح المؤسسة نجدها تعتني أكثر بشروط إمكان خلق القيمة المضافة عند المؤسسة الاقتصادية أي بخلق الثروة عبر الاستثمار والتشغيل والابتكار وتحسين الإنتاج والإنتاجية ..وان الثروة تخلق الثروة وان النجاح يخلق النجاح وبعد ذلك نطلب من المؤسسة القيام بدورها المواطني والاجتماعي عبر منظومة جبائية عادلة وعبر التدخل الاجتماعي والبيئي للمؤسسة في محيطها المادي والبشري.. أما أن نثقل كاهلها بالضرائب والاداءات المتغيرة كل سنة حسب جدول حسابات وزارة المالية فقد ينتج عن ذلك خنق المؤسسة وبالتالي نخسر مرتين : مرة لأننا بخنق المؤسسة الاقتصادية لا نسمح لها بالاستثمار والتشغيل واكتساح الأسواق وثانيا لان خنق المؤسسة ينتج عنه حتما على المدى القصير تراجع لموارد الدولة..

بالطبع يكون من غير العدل القول بأنّ مشروع قانون المالية لم يسع الى تحفيز المؤسسات ولاسيما المصدرة منها ولكن جملة مكوناته تجعلنا نعتقد بان المنطق المحاسبي قوي جدا وأن المراهنة القوية والشجاعة على المؤسسة الاقتصادية ليست بالوضوح المطلوب..

الإنصات إلى مشاغل صاحبات وأصحاب المؤسسات لا يعني الاستجابة لكل مطالبهم بل يعني فقط الانتباه إلى محورية المؤسسة الاقتصادية اليوم وغدا وان تشجيعها واجب لا لاستثراء غير مشروع لأصحابها بل لقوة المؤسسة ولصلابتها ولقدرتها على المنافسة في الأسواق العالمية لا بالاعتماد على يد عاملة ضعيفة التكوين بل بتشجيعها للارتفاع في مستوى القيم أي خلق القيمة المضافة العالية المدمجة للكفاءات والتقنيات والمعارف..

مركزية المؤسسة الاقتصادية لا تعني انحيازا لأصحاب العمل بل تعني انحيازا للعمل ولكل مكوناته البشرية والمادية والمعرفية..
هكذا نريد أن نفهم تخوفات الأعراف وغضبهم وهذا ما ينبغي على الحكومة وأطراف الإنتاج والنخب حسن الإنصات والإصغاء إليه..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115