إصلاح أوضاع وزاراتهم ..يقولون ذلك أحيانا بحرج و بشيء من التحفظ ، و أحيانا أخرى بضعف و تسليم .. يقولونها و كأنهم غرباء عن هرم الإدارة بلا إرادة و لا نفوذ.
في هذا الشأن، يتعلّل بعض الوزراء بأن النصوص و مشاريع الأوامر مكدسة على الرفوف، في غياب إرادة تشريعية جادّة ،و أن اللّجان في إجتماعات مفتوحة تلتئم و تنفضّ لإدارة الأزمات والدوران في حلقة مفرغة.
و يتعلّل البعض الآخر – بنفس عقلية المغترب- بأن آليات الإدارة ينخرها الصدأ و أصبحت مستعصية،و هي تتصرّف كما تريد ،و أن الوزير لا حول ولا قوّة له أمام إدارة متغوّلة و «متسيّبة» بإسنثناء قلّة قليلة من الإداريين يعملون بفتور ودون حماس يتقون شرّ أغلبية تفضل أن يبقى الحال على ما هو عليه، لا عمل ولا إجتهاد لها، ولا شيء غير مزيد من المماطلة في إسداء الخدمات وتعطيل الملفات لإستغلال النفوذ و إمتصاص ما أمكن عبر قنوات الفساد. ..
ويبرّر المغرقون في التهرّب من المسؤولية، سبب التقاعس في العمل ، بالخوف من سيف القانون والرقابة، والحال أنهم على دراية بقصور هذه الآليات
لا أحد من هؤلاء الحاملين لحقائب ظاهرها مليء و باطنها فارغ، تخامره فكرة التمرّد على ما أصبح سائدا ، فيكتفي بإدارة التوازنات الّتي كان إحدى ثمارها ، غير قادر على مغادرة الموقع الّذي وضع فيه، إمّا تشبثا «بكرسي الواجهة» و أبّهة المركز لدى عامّة الناس، أو أملا في تغيّر الحال بقدرة قادر قد تأتي أو لا تأتي.
ولكن هل هذه هي الأسباب الحقيقية لإنخرام العمل الإداري و تكبيل العديد من الوزراء إن صحت العبارة ؟
لو عدنا إلى الماضي القريب و بحثنا في منهجية ما سمي بالتوافق في تشكيل الحكومات الوقتية والدّائمة ، لوقفنا على ما أسفرت عنه سياسة تقاسم النفوذ و المراكز على خلفيات سياسية وإستنادا للولاءات و تبادل المصالح الّتي أدّت إلى الوضع الحالي.
و كانت البداية بما قامت به حكومة الترويكا الّتي فرضت الآلاف من الإداريين دون كفاءة و لا إستحقاق و لا تجربة ، و في أحيان كثيرة تحت عنوان «تسوية وضعيات» أو مكافأة على نضالات سياسية أو ترضيات أو محاصة . و تمّ كل ذلك بإستبعاد كفاءات أخرى أحيلت على التقاعد المبكّر أو جمّدت في مكاتب منسية. والغريب أن كل الأطراف السياسية و منظمات المجتمع المدني تعرف و تقر بهذه الحقيقة ، لذلك تضمّنت خارطة طريق «الرباعي الراعي للحوار » بندا يتعلّق بمراجعة التعيينات الإدارية المستندة إلى الولاء السياسي، و لكن لم يحصل من ذلك غير تصفية بعض الحسابات بين الّذين كانوا في دفة الحكم والإدارة . بل إن هيئات الرقابة المختلفة والمتعاقبة بمختلف تصنيفاتها لم تقدر على إقتلاع الطفيليين من مفاصل الدولة ،بل أصبحت في حالات كثيرة جزءا من المشكلة.
هذا العجز شمل حتى الهيئات المستقلة وشبه المستقلّة والتابعة بما في ذلك تلك الّتي تحمل راية الحوكمة الرشيدة و مكافحة الفساد و الرشوة ، الّتي كانت على بيّنة من كل هذا ،بحكم معرفتها المباشرة للملفات أو بحكم التقارير الّتي حرّرتها الهيئات المتعاقبة . و الأنكى و الأمر أن هذه الأخيرة بدل أن تتشّبث بدورها كهيئات داعمة لمجهود الدولة ، أصبحت متوقّفة على طلب ضخ الأموال في صندوقها والتهرب من آليات رقابتها ،و الدخول في حملات «التباكي» لإستجداء المناصرة والتأييد الإعلامي، مع صرف المال المرصود من الدّاخل و المدعوم من المنظمات الدولية في الحملات التحسيسية والمتلقيات و الندوات و المؤتمرات ، و كأن هذا هو السبيل الوحيد لتخليص البلاد من الفساد الكبير والصغير ، في القطاعين العام و الخاص.
إن الأسباب و النتائج المذكورة لا تعفي الوزير من مسؤولية إدارة وزارته و الإشراف على مختلف هياكلها و متابعة كل أعمال الإدارات الّتي تشملها وزارته ، و إتخاذ التدابير اللاّزمة الّتي تقتضيها القوانين والتراتيب الخاصة بكل وزارة . فالوزير هو- نظريا - الّذي يقترح التعيينات في الوظائف المدنية العليا و كذلك الإعفاء منها طبق مقتضيات القانون عدد 33 لسنة 2015 مؤرخ في 17 أوت 2015 المتعلّق بضبط الوظائف المدنية العليا طبقا أحكام الفصل 92 من الدستور و يكون ذلك بمقتضى أمر حكومي يصدره رئيس الحكومة .
كما أن الموظف العمومي مهما كانت مسؤوليته ليس طليق اليدين فالقانون المنظم للوظيفة العمومية يتيح إمكانية تتبعه تأديبيا إذا ثبت قصوره المهني و يخول القانون حتى إعفاءه من مهامه ، و في صورة إرتكابه خطأ جسيما سواء بإخلاله بالواجبات المهنية أو إرتكابه جريمة من جرائم الحق العام مثل الإرتشاء أو إختلاس أموال عمومية أو الزور أو إفشاء السر المهني فإنه يوقف حالا عن مباشرة وظيفته و يرفع الأمر للنيابة العمومية لطلب تتبعه جزائيا من أجل الأفعال المنسوبة إليه .
و لكن إذا تخلى الوزير عن صلاحياته ،أو إنخرط في الموازنات السياسية الّتي كانت وراء تعيينه ، أو كان مفتقدا للجرأة أو غير متمكن من ملفاته أو عاجزا عن إتخاذ قرار يدخل ضمن مشمولاته ، فليس له أن يتعلّل بإنحسار نفوذه ،و ما عليه في هذه الحالة إلاّ أن يترك مكانه لمن هو قادر على ملء ذلك المكان ، و إذا تخلّف عن ذلك فلرئيس الحكومة المبادرة بتغييره إذا ثبت له التقصير أو التهاون أو نقص الكفاءة حتى لا يقال عن وزرائه أنهم بلا نفوذ ...