والفساد كمسرحية الحياة التعيسة..له رموز فوق الخشبة وتحت الأضواء الكاشفة يتنازلون ويتباهون ويلعبون أدوارا تفوق في أحيان كثيرة عبقريتهم الفذة..وهنالك شخوص كالأشباح لا تطالها الأضواء وتربطها بعالم الضوء خيوط تحرك بها أبطال الزيف وتنفخ في ذواتهم المتورمة وتوهمهم بأنهم الأبطال الفعليون لأصدقاء «علي بابا» بل وأنهم «علي بابا» ذاته..
سوف يأتي يوم يتمكن فيه المؤرخون من إعادة بناء الصورة كاملة بالاعتماد على الوثائق الأمنية والقضائية لهذه الشبكات المنحدرة أساسا من التجارة الموازية والتهريب والرشوة وشراء الضمائر والذمم وكيف تمكنت في وقت قصير من التسرب إلى كل مواقع النفوذ والسلطة من إدارة وديوانة وامن وقضاء وإعلام وسياسة إلى درجة أنها أصبحت كالدويلة المبنية بخيط العنكبوت..دويلة تتعاظم كالضفدعة التي تحكي انتفاخا صولة الأسد..
ولكن بيت الفساد كبيت العنكبوت هو الوهن كلّه متى وجد عزما وتصميما على قطع أوصاله وتفكيك خيوطه.. بيت العنكبوت هذا قد ألقى بخيوطه في مجالين كانا حيويين لانتشاره ولاستمرار نفوذه وقوته: الإعلام والسياسة..فأغدق من أمواله الفاسدة ما أمكن له وسعى لجعل عملية شراء الذمم بالمنافع المباشرة وغير المباشرة عملية عادية بل هي الفطنة ذاتها..وقد وقع في خيوط العنكبوت العديد من أهل الإعلام والسياسة .بعضهم اكتفى بلعب دور المستهلك السلبي وبعضهم عظم حجمه وانتصب،ولو جزئيا، للحساب الخاص مع الإبقاء على شبكة علاقات أولياء النعمة ذات اليمين وذات الشمال..
وكما يرتبط الإعلام بالسياسة في العالم اجمع ففسادهما مترابط أيضا ويجعلهما ينهلان من نفس المنبع : المال الفاسد بمختلف أصنافه وأنواعه..
اليوم لا يعلم أحد حجم اختراق لوبيات الفساد لعالمي الإعلام والسياسة ..صحيح أننا نعلم حدسا أو حسا بفساد بعض الإعلاميين والسياسيين ولدينا شكوك كبيرة حول بعضهم الآخر كما نعلم علم اليقين وجود بعض وسائل الإعلام لا تنتمي إلا لعالم الفساد لا غير ..ولكن يعوزنا الإثبات والحجج ولا نعلم ما هو حجم الصفقات المعقودة ولا طبيعة مجالاتها..قد يخلص التحقيق الاستقصائي الصحفي الى بعض المعلومات ولكن وحده القضاء يملك تفكيك شفرة شبكات الفساد..
لاشك لدينا بأن « رقم المعاملات» الأساسي للفساد يحصل ، في جوهره، خارج مجالي الإعلام والسياسة فهو في التهريب والتهرب الجبائي والرشوة داخل الصفقات العمومية ولكن اكتمال شبكات الفساد الكبرى يكون دوما عبر السياسة والإعلام..
ويخطئ من يعتقد بان شبكات الفساد عندما تتسرب إلى مجالي الإعلام والسياسة فهي تبحث فقط عن الظهور والاعتراف أو تسعى لتحقيق مكسب مباشر كتسويق خبر ما أو تمرير قانون ما ..غاية هذه الشبكات أعمق وأوسع من هذا بكثير ..إنها تريد شبكة حماية واسعة بإغداقها لأموال طائلة في هذين المجالين..حماية يعسر المساس منها وجعل منها قدرا محتوما ويصبح عدم التعامل معها هو النشاز و«قلة معروف».
فلسفة الفساد قائمة على مبدإ «التشبيك» أي ربط شبكات ببعضها البعض من اجل تقوية أداء كل شبكة على حدة وقدرتها على التحرك السريع وبالنجاعة المطلوبة ..
لاشك أن دحر آفة الفساد في قطاعي الإعلام والسياسة سيكون هو الأعسر والأصعب لأنه يتطلب تصميما لا يكل ، قضاء مستقلا قلبا ومعنى والابتعاد عن كل شبهة لتصفية خصوم سياسيين أو التضييق على الحريات الإعلامية ..
ولكن لا يمكن للإعلاميين وللسياسيين أن يقفوا موقف المتفرج في عملية التطهير التي يجب أن تستهدف كل مواطن الفساد التي تسللت إلى هذين العالمين دون التعلل بواجب «الزمالة» أو ردود الفعل القبلية من صنف «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ..
نحن نعلم أن كل الهياكل المهنية في الإعلام ما انفكت تطالب باحترام أخلاقيات المهنة والتشهير بكل السلوكيات غير الشريفة ..نفس هذا الجهد مطلوب عند الأحزاب السياسية لا تشفيا في زيد أو عمرو بل لإرجاع الأخلاق إلى جوهر العمل السياسي والإعلامي على حدّ سواء .