وضع الرياضة في تونس الجري وراء الكرة ... و المشي عليها !

ما فتئت أعوار الرياضة في تونس تنكشف يوما بعد يوم، إلى أن أصبحت مدعاة للتندّر ومصدرا للتبرّم الشعبي ومرتعا للدعاية المضادّة ، بسبب تفاقم الظواهر و السلوكيات السلبية في ظل غياب

سياسة و ضوابط تجعلها مصدر ترفيه و تنمية و تقدّم . و ما يجعل الأمر أكثر خطورة إفتقاد مسيري الهياكل السّاهرة على شؤون الرياضة في تونس لأي منهجية سياسية أو معرفية لمتطلبات النهوض بكل الرياضات و مسايرة التقدّم الّذي تميّزت به الهياكل المقارنة في أغلب الدول المتقدّمة و الهياكل الدولية.

و لو أن الأمر لا يتوقّف على كرة القدم ، فإن هذه الرياضة الأكثر شعبية أصبحت «ساحة للوغى» و بث نوازع التفرقة في أغلب الجهات، ومسرحا يلعب فيه أغلب الرياضيين و المسؤولين عن الرياضة أفسد المشاهد و أفضعها . فبالرغم من أن هذه الرياضة خرجت من نطاق الهواية إلى مجال الإحتراف و دخلت في نطاق الدورة الإقتصادية و سايرت العولمة و النظام الإقتصادي الجديد في الدول المتقدّمة، إلا أنها ما تزال في أذهان التونسيين و في العديد من الدول المتخلّفة نشاطا ممارسا على هامش الشأن العام ، و لكن بالتعويل على مال الدّولة و على دعمها ، و تبذير المال العام ليستفيد المتمعشّون أكثر من الدولة نفسها والرياضة ذاتها .

و رغم أن الرياضات الجماعية هي المستأثرة بالإهتمام و التنظيم ،فإن رياضة كرة القدم ، تبقى في صدارة المتابعة و الإهتمام ، و لكن في ظل فوضى تشريعية ، متناثرة تعالج مختلف الإشكاليات و النزاعات حالة بحالة ، دون أن تكون هناك رؤية واضحة لحاضر و مستقبل الرياضة .

إن ميزانية الشباب والرياضة تمثّل 6،1 بالمائة من الميزانية العامّة للدولة سنة 2017 بحوالي 547,041 مليون دينار تسأثر الرياضة بثلاثة أرباع منها و الربع الباقي تقريبا للشباب. و لو أن هذه النسبة ضعيفة فإنّها أفضل بقليل من ميزانية وزارة العدل (542.055 مليون دينار )و أكثر من ضعف وزارة الثقافة( 257.650 مليون دينار )و هو دليل على إهتمام الدولة بمجال الرياضة للتعويل عليها في تأطير الشباب و صقل مواهبه و حمايته من مختلف السلوكيات الخطيرة مثل السقوط في شبكات الإرهاب والتطرف و الهجرة غير الشرعية و المخدّرات وأخطبوط التهريب والجرائم المنظمة...

و لكن ما يشهده مجال الرياضة من عنف لفظي و مادي و ما يصاحب ذلك من تغذية للنعرة الجهوية و تحميلها شعارات سياسية رغم عزوف الشباب عن المشاركة في الحياة العامّة، أصبح يشكّل خطرا ولا بد من وقفة حازمة لمعالجة هذا الوضع.

و الملاحظ أن إدارة ما آلت إليه الأوضاع يتّسم بالإرتجال و التهاون لأن مؤشرات حالة الإنفلات والتسيّب برزت في أكثر من مناسبة ولكن لم تعالج بالحزم اللاّزم لذلك اتسعت . إن الشأن الرياضي له مواصفات خاصة، و خاصّة في ميدان كرة القدم ،لأّنه غير مؤطّر من مؤسّسات الدولة فقط ، بل هو أيضا محكوم بإرادة الأفراد سواء على مستوى الأندية أو على مستوى هياكل الجامعة الوطنية لكرة القدم و حتى على مستوى هياكل دولية مثل الجامعة الدولية لكرة القدم .

هذه الخصوصية تقتضي مزيد التنظيم من الناحية التشريعية لتجاوز الفوضى في مختلف الرياضات في تونس الّتي اتضح أنها لا تمتلك خيطا رابطا بينها ، سواء في التنظيم أو التسيير أو في التمويل أو في حل النزاعات.

فالرياضة الحديثة ، أصبحت في الدول المتقدّمة مجالا واسعا للإستثمار ، و لكن حافظت على نواميسها و أخلاقياتها ، بواسطة نظم قانونية ملزمة للجميع، وبقيت رغم تحرّرها «المالي» مدارس للإحاطة و الفرجة و الترويح عن النفس والإنفتاح على المحيط ،و نابذة للعنف و الفوضى، و مساهمة في الحراك الإقتصادي للدول.

و بالرغم من أن الجامعة الدولية لكرة القدم أصبحت من أقوى المؤسّسات الدولية و أقدرها على فرض قوانينها و على تنفيذ أحكامها وشروطها، رغم عدم إعتبار قوانينها من ضمن الإتفاقيات أو المعاهدات الدولية في سلم قوانين الدول، فإن العديد من التشريعات المقارنة فرضت قواعدها الوطنية ،و وفّرت الحماية اللاّزمة لسيادة قوانينها الداخلية ، و لكن مع التأقلم مع ما تفرضه المعاملات الدولية عند وجود طرف أجنبي .

إن تسيير شؤون الرياضة حسب أهواء المسيرين و الماسكين بالهياكل دون أن تكون لهم الكفاءة والدراية بنظم الهيكلة والتسيير والتحكيم و فض النزاعات ، و لو في قالب نظم أساسية خاصّة صادرة عن إرادة المنخرطين ، يجب ألاّ تتعارض مع تشريعات نابعة من إرادة الشعب بواسطة مؤسّسات الدولة و لو كانت غير مساهمة في التمويل .

لذلك لا بد من تأسيس نظام عام رياضي يخضع الجميع إلى ضوابطه له نفس مميزات القواعد القانونية العامّة والمجرّدة والمنطبقة على الجميع بمساواة و عدل. و إن كانت للرياضة خصوصيات فليكن ذلك ، و لكن لا مجال إلى أن تبقى الرياضة في تونس محكومة بالأهواء والإرادة الفردية، لأن ذلك لا يجعل المنافسات فقط غير نزيهة ، بل يكرّس الفساد السائد ويخرج الأنشطة الرياضية عن أهدافها ، فتغذي الأحقاد، و تولّد الشعور بالضيم و الظلم لدى البعض ، وتغذّي تسلط الأطراف المستقوية بالمال أو الجاه، وهو ما يؤثر على اللّحمة و الإنتماء الوطنيين .

يمكن للدولة أن تتخلّى شيئا فشيئا عن الأعباء المالية الّتي تثقل ميزانيتها في المجال الرياضي البحت ،و تشجع الإستثمار في المجال الرياضي لأن كل إستثمار يكون في النهاية داعما لميزانية الدوّلة إذا وضعت القوانين الملائمة و فرضت تطبيقها ، و لكن يجب ألاّ تتخلّى الدولة عن دورها في تأطير الشباب و خلق الفضاءات اللاّزمة وتطوير البنية التحتية و فرض سيادة القانون في كل كبيرة و صغيرة بوضع تشاريع متقدّمة و مستوعبة لمختلف التجارب .و إذا إقتضى الأمر وقفة تأمل لإعادة ترتيب البيت كما يقال ، فلا شيء يمنع ذلك حتى يقع وضع حدّ لترك الحبل على الغارب .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115