فخلف الواجهة «المخيفة» الّتي تبدو متماسكة من الخارج، يجثم واقع مرير، يلمسه المتابع المتنفّذ إلى أوضاع كل المحاكم بمختلف الجهات و الرّاصد عن كثب لواقع الآليات القضائية التونسية.
ولو أنّه سبق تناول أوضاع القضاء، في أكثر من مناسبة، فإن غياب ردود فعل إيجابية دالّة على توفّر إرادة الإصلاح والتغيير في كل المستويات، والمخاوف المريبة لأصحاب الشأن من «العلاج الذّاتي» لجسدهم المتهالك، تدعو إلى بسط ملامح الواقع بعد ستين سنة من الإستقلال وبعد مرور خمس سنوات على بوادر إرساء مسار وضع دعائم دولة القانون والمؤسّسات، في اتجاه حث مؤسسّات الدولة والأطراف المعنية بالشأن القضائي عموما على التحرّك السريع والناجع لإنقاذ مؤسّسة القضاء، من التردّي الّذي هي فيه.
ما يناهز ثلاث ملايين ونصف قضية سنويا، جانب كبير منها نزاعات أسرية متعلّقة بالأحوال الشخصية والمال والتركات يعطي فكرة عن مجتمع «مسالم» ميّال للنزاعات، أي بمعدّل يقارب أكثر من قضية لكل كهل تونسي.
معدّل فصل القضايا في المحاكم الكبرى لكل قاضي بلغ ما يناهز 600 ملف أسبوعيا.
القضاة في بعض المحاكم يشغلون المكاتب بالتناوب.
التحريرات على المتقاضين تتمّ في بعض المحاكم في المكتبات ويضطر بعض القضاة لإنتظار شغور المكاتب لإنجاز أعمالهم.
مقرات محاكم يقع تسويغها بمئات الملايين وتعجز الدولة خلال 60 سنة من الإستقلال عن بناء محاكم على الملك العام للدولة ولا تستجيب لمتطلّبات العمل القضائي.
العديد من المحاكم لا تتوفّر فيها التجهيزات الضرورية والمرافق العامّة، فتُنقل الملفات على كراسي بالعجلات، ولا تتوفّر فيها الكراسي بالعدد الكافي، ويضطر القضاة إلى توفير مستلزمات العمل، وتتعطّل الاعمال أحيانا لعدم توفّر المتطلبات الدنيا للعمل.
دوائر جنائية تنظر في عشرات الملفات، ودوائر جناحية تنظر في مئات الملفات الجناحية يوميا.
ملفات مكدّسة في الأركان، وأخرى تتبعثر محتوياتها وتتلاشى بعضها أحيانا أو تضيع.
أحكام متسرّعة وأخطاء متكرّرة ومواعيد تتجدّد وتطول إلى درجة أن المتقاضي يملّ الانتظار ويصاب بالقرف كي يحصل على حقوقه إن تخطّت حواجز الفساد.
الهياكل الممثلة للقضاة والمحامين، تجاري النسق العام و غير قادرة على أن تجتمع أو ان تتحاور من أجل فض الإشكاليات المتراكمة الّتي يعاني منها أصحاب الشأن من قضاة ومحامين ومساعدي قضاء وما يتكبدّه المتقاضي يوميا.
عدد الجرائم في أغلب المجالات يتزايد عاما بعد عام (سنة 2014 /177.524 جريمة - وفي سنة 2015 /187.316 جريمة ).
سجون ومراكز إيقاف مكتظة تتجاوز بعضها طاقة إستيعابها بـ150 %.
ظروف عمل أعوان وكتبة المحاكم وأعوان السجون محل تذمّر دائم، وحالات التسيّب و نقص المراقبة يتسبّب يوميا في العديد من التجاوزات وتفشي بعض ظواهر الفساد والرشوة.
مشروع القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء ما زال يراوح بين ردهات مجلس نواب الشعب والمحكمة الدستورية في علم الغيب ....
هذه اللّوحة السوداء، يقف عليها المتابعون ومصالح وزارة العدل على بيّنة تامّة منها، ولكن لا بوادر بادية للإصلاح الجذري، بل إن وزارة العدل تبدو وكأنها في حالة بطالة فنية، وهي نفسها تشكّل حلقة من حلقات التأزم بدل أن تكون فاعلة في البحث عن الحلول.
هذه الحقائق لم تحرّك سواكن الهياكل الممثلة للقضاة والمحامين وغيرها من الهياكل المتدخّلة، الّتي بدت مسكونة بالتوجس والخوف، فبقيت تدير الأزمات وتملأ أجنداتها بندوات وبيانات وبلاغات في كل شأن من دون شؤونها، لتؤثّث بها تقاريرها الأدبية والمالية في جلساتها العامّة. هذا هو الوضع الّذي يحلو للبعض أن يقولوا أنه أفضل من غيرنا، ولكن يحجمون عن مجابهة تداعياته ليتغيّر الحال لما هو أرقى وأفضل.