مجرد تراكم لاختلالات سياسية او اقتصادية بل تحولت الى مشهد شامل ومركب تتداخل فيه حزمة من العناصر موازين القوى ونهج السلطة ووضع المعارضة وقلق المجتمع المدني والازمات الداخلية في المنظمات ومخاوفها من مشروع الحكم وكان هذا غير كاف يضاف اليه الضغط الاجتماعي والاقتصادي الخانق.
كلها عناصر تلتقي لتولد ازمة تمس بنية الدولة والمجتمع في عمقهما وتعيد رسم حدود الفعل السياسي وترسم مستقبلا مفتوحا على كل الفرضيات.
ازمة ليست وليدة اليوم بل هي امتداد طبيعي لمشهد تونسي الف منذ سنوات ازماته وابتدع في مراحل عدة من مساره مخارج منها وان لم تكن تعالجها هيكليا غير انها اليوم بلغت مرحلة غير مسبوقة في ظل تقاطع جملة من العوامل والعناصر معا يبدو تحول دون قدرة الجميع على بلوغ مخرج وان كان ظرفيا.
فنحن ازاء مشهد مركب من ابرز عناصره السلطة ونهجها في ادارة الحكم والفضاء العام الذي لا تخفيه بل تعلنه على رؤوس الملأ بمقولات تسوق لنموذج للحكم قائم على مركزية القرار حرب تحرير وطنية يستخدم في خوضها ادوات قانونية وادارية لتفكيك الخصوم السياسيين وتضبط المجال العام تحت مسميات عدة تبرز في الخطاب الرسمي الذي يبرر تشديد القبضة بمكافحة الفساد وتحصين الدولة من المتآمرين وفرض السيادة الوطنية وتحقيق الارادة الشعبية.
مقولات تواجه بها السلطة تعثراتها في تحقيق منجز اجتماعي واقتصادي يؤثر على حياة التونسيين ومعاشهم بشكل مباشر وايجابي ولكنها اليوم تقف عند حدوده خاصة في ملف قابس والوحدات الصناعية الملوثة بها اذ ان السلطة هنا تواجه تبعات خيارها وخطابها السياسي الذي لم يقتصر على تقديمها كمركز وحيد للحكم بل وضعها في قلب دائرة الغضب الشعبي المتصاعد ولتصبح هي ذاتها مركز الاحتجاج بعد ان افرغت الساحة من المؤسسات الوسيطة وباتت في مواجهة مباشرة مع الاهالي المتضررين.
مواجهة تدرك السلطة رغم خطابها القوي والحازم انها ستؤثر سلبا عليها وهو ما قد يفسر نهجها الباحث عن تفادي ارتدادات انفجار اجتماعي في قابس بالاحتماء خلف لجنة اهلية تقدمها كاطار محلي جامع مكلف بتقديم حلول للوضع البيئي وتلعب دور جدار صد يعاد من خلاله توزيع المسؤولية وامتصاص الاحتقان حتى لا تجد السلطة نفسها وجها لوجه امام موجة غضب واسعة اذا ما ازداد احتدام الوضع في قابس.
ازمة السلطة هنا لا تختزل في ملف قابس وحده بل تمتد الى عشرات الملفات التي تراكمت دون حلول واضحة غير ان قابس تكثف هذه الازمة وتقدمها في اوضح صورها حيث تجمع بين عنصرين ازمة حكم وازمة ثقة. فهناك تواجه السلطة وضعا بالغ الحساسية وهي مكشوفة تماما بلا حزام سياسي او سند برلماني فعلي رغم كثافة التحركات والصراعات داخل محيطها المباشر حيث تتسابق اطراف مختلفة لادعاء لعب دور الداعم او الممثل او المؤثر في القرار.
وقد انتج هذا المشهد ما يمكن اعتباره حرب مواقع وتموقع داخل دائرة الحكم نفسها حربا بات فيها كل شيء مباحا حتى ان كان ذلك يؤثر سلبا على صورة السلطة ذاتها ويقوض امتدادها في الشارع ويزيد من هشاشة موقعها امام الازمات الاجتماعية المتفاقمة.
وهذا يعني ان محاولات ملء الفراغ حول السلطة التي يفترض ان تمنحها قوة واستقرارا وقدرة على المناورة تحولت بفعل الصراع الداخلي الى عنصر ارباك اضافي يفاقم ضعفها البنيوي اذ عوضا عن ان تتكون حولها شبكة دعم سياسية واضحة ومتجانسة نشأ مجال رمادي تتحرك فيه مجموعات تاثير صغيرة وفاعلون يبحثون عن النفوذ اكثر من بحثهم عن الحلول.
وعوض ان يتحول محيط السلطة الى قاعدة صلبة تسند الخيارات الكبرى اصبح مساحة تجاذب تستنزف فيها الطاقة مما يعني ان الفراغ لم يعد هو المشكلة بل ان طريقة ملئه هي التي عمقت الازمة وعرّت هشاشة السلطة ووضعتها في مواجهة مباشرة مع تبعات خياراتها دون ادوات سياسية او مؤسساتية تخفف عنها ثقل الموقف او تمنحها القدرة على تحويل الازمات الى فرص اصلاح.
والازمة هنا لا تقتصر على السلطة ومحيطها بل على كامل المشهد والفاعلين فيه ومن ذلك المعارضة او المعارضات التي تعاني من تفكك بنيتها التنظيمية تفاقمت مع تعرض اجزاء منها الى استهداف ومحاكمات فيما فقدت اطراف اخرى ثقلها نتيجة اوضاعها الداخلية المضطربة بالاضافة الى عناصر اخرى قادتها في النهاية الى ان تكون غير قادرة على التاثير في مسار السلطة او فرض معادلة جديدة وتوازنات.
هذا الضعف البنيوي للمعارضة لم يخلق فقط فراغا سياسيا بل سمح للسلطة بتعميق خطاب يفصل المجتمع الى معسكرين في عملية استقطاب غذت مزيدا من الانغلاق السياسي الذي بات يفرض وقعه على المعارضة ويدفعها الى اعادة قراءة المشهد وترتيب اولوياتها وادراك عمق ازمتها الهيكلية والشعبية.
في ظل هذا السياق المتشابك يجد المجتمع المدني بمنظماته وجمعياته نفسه بدوره جزءا من الازمة لا مجرد مراقب لها فهم اليوم يواجهون تصاعدا للقيود التي تفرض على نشاطهم ومحاولة للحد من ادوارهم اضافة الى ما يعانيه عدد منها من ازمات داخلية وقعها لا يقل حدة عن وقع الاجراءات التي تتخذها السلطة ضدها والتي لا تقرأ بوصفها اجراءات ادارية معزولة بل تبدو اقرب الى محاولات منهجية لاعادة ترسيم حدود الفضاء المدني وتحديد مجالات التعبير والعمل المقبولة.
وما يتشكل في تونس اليوم ليس مجرد ازمة ظرفية بل نحن امام اعادة تركيب جذرية لقواعد العملية السياسية في سياق ازمات شاملة ومركبة تمس الدولة والمجتمع معا وليس نزاعا بين اطراف ولا انحرافا عابرا في المسار فهي نتاج تفاعل معقد بين خيارات السلطة وارتباك المعارضة وانكماش الفضاء المدني وضغط اقتصادي ثقيل يجعل اي توتر قابلا للانفجار الاجتماعي. وفي هذه المعادلة سلطة مركزة معارضة مشتتة مجتمع مدني مكبل قد يتشكل استقرار هش لكنه يخفي توترا كامنا يحضر في كل مفصل حساس.
ان المشهد الذي افرز خلال هذه السنوات مفتوح على مسارات متباينة في غياب حوار وطني جامع قادر على انتاج قواعد مشتركة يبقى مستقبل البلاد معلقا بين احتمالات متناقضة ينتظر لحظة قد تعيد ترتيب كل شيء مرة اخرى في ازمة لا تطال قطاعا بعينه بل البنيان الكامل للنظام السياسي والاجتماعي