الرئيس قيس سعيّد في كل الاتجاهات، اجتماعات ونداءات عبر الصفحات، ودعوات للحشد والتعبئة، ومحاولات تنسيق متشابكة بين مجموعات لا يجمع بينها سوى الولاء للرئيس، ويفرّق بينها الكثير من ذلك طريقة فهم هذا الولاء وكيف يعبر عنه يوم الاربعاء القادم تاريخ مسيرة يراد لها ان تبرز ثقل الرئيس الشعبي. ينتظر ان تركز شعاراتها على حماية الوطن من المتآمرين والمعارضة والمستقوين بالخارج.
لكن خلف هذا السطح تكمن طبقات سياسية كثيفة تتجاوز منطق التعبئة المنتهج اليوم سواء عبر المنصات او في الاتصالات المباشرة بالمواطنين في الجهات على أمل حشد الالاف من التونسيين للمشاركة في مسيرة يتجاوز رهانها شعاراتها الفضفاضة لتمتد إلى محاولة إعادة تشكيل محيط الرئيس، وملء الفراغ الذي يتركه عمدا حوله، وهو الفراغ الذي يغري الجميع بمحاولة احتلاله.
فان كان أنصار الرئيس يدركون بمختلف أطيافهم، أن قيس سعيّد لا يريد حزبا ولا حزاما سياسيا. لان ذلك يتعارض مع مقاربة الحكم الجديدة القائمة على القيادة بلا وسطاء، بلا ممثلين، بلا وساطات بينه وبين «الشعب». لكنهم مع ذلك لم ينفكوا يسعون لملء الفراغ ولعب دور حزام الرئيس السياسي في كل مناسبة تسنح.
وهو ما سيتكرر مع مسيرة 17 ديسمبر الجاري التي تبدو بالنسبة لهم لحظة حاسمة وفرصة لإقناع الرئيس بأن وراءه كتلة سياسية–اجتماعية يمكن أن تتجسد في الشارع، كتلة يمكنه أن يستند إليها إن أراد، أو يتبناها بالإيحاء على الأقل. فالمسيرة ـ في نظر منظّميها ـ ليست ردًّا على المعارضة بقدر ما هي رسائل داخلية موجّهة للرئيس نفسه، ها نحن هنا، قادرون على التعبئة وحشد الشارع كما نحن قادرون على طرح مبادرة سياسية، وما ينتظرون من الرئيس سوى أن يقبل بهم كحزامه السياسي الذي طال انتظاره.
حزام يتقاطع في عملية تكوينه طرفان أساسيان كانا لوقت قريب متناقضين متنافسين ولكنهم اليوم يتحركون لحشد الشارع وكأنهما جزء من الكتلة نفسها رغم أنهم ما زالوا متباعدين في العمق، وهما ما يعرف باسم «أبناء التنسيقيات» و»أبناء المسار». أبناء التنسيقيات الأكثر حضورًا رمزيًا في المشهد مستندين إرثهم مع الرئيس في حملته الانتخابية وبإيمانهم العاطفي به وبقناعة بأنهم الامتداد العضوي له، انتقلوا اليوم من مهمة النقاش أو التأويل، إلى الحماية والمواجهة والاصطفاف.
أمّا «أبناء المسار»، وهم من التحق بالرئيس ومشروعه بعد 25 جولية 2021، ويتحركون بمنطق مختلف، تحكمه لغة سياسية تتخفّف من الضوابط ومن واقع الشارع، وتراهن على إعادة صياغة صورة الدولة جنبا الى جنب مع رهانها على الرئيس نفسه. فهؤلاء اللذين التحقوا عشية 25 جويلية، ووجدوا في مسار الرئيس فرصة لإعادة طرح أنفسهم كحزام شعبي وسياسي للمسار يؤثثون مقولاتهم السياسية باستعارة مقولات الدولة المركزية الصلبة، تُستعاد فيها سلطة القرار إلى المركز وتُعاد هيكلة الفضاء السياسي على مقاس رؤيتهم وما يقق لبعض مكاسب.
ورغم أنّ هذا الخطاب لم يمنحهم مكانة رمزية في دائرة المساندة، فإنهم ظلّوا يسعون للتحول إلى قوة سياسية ، معتمدين كما يسوقون لما يمتلكونه جنبا الى جنب مع ابناء التنسيقيات من أدوات عمل ميدانية ساهمت في جمع التزكيات الرئيس في انتخابات الرئاسية الفارطة، رغ ما يحملهم سجلهم من اخفاقات سابقة في مسعى لعب دور سياسي متقدم او في حشد الشارع.
هنا وبشكل صريح يبرز الرهان الحقيقي للمسيرة، للطرفين سواء معا او بشكل منفصل، فالمسيرة ليست مجرد تحرك في الشارع، بل اختبار سياسي مزدوج سيحدد ملامح المرحلة القادمة لمحيط الرئيس وللجسم السياسي الذي يتحرك حوله دون اعتراف رسمي. وأول لاختبار هو القدرة على التعبئة، فهذه المسيرة تأتي بعد أربعة تحركات بارزة عاشت على وقع تونس خلال الاسابيع القليلة الفارطة، قدتها المعارضة والاتحاد العام التونسي للشغل.
حيث نجح كل طرف في استعادة جزء من شرعية الشارع وفي كسر محاولة غلق الفضاء العام او جعله حكرا على أنصار 25 جويلية. لذلك، فإن حجم المشاركة في مسيرة 17 ديسمبر سيكون معيارا دقيقا لقياس مدى تماسك القاعدة التي راهن عليها الرئيس، ومدى قدرتها على استعادة المبادرة في سياق يشهد تراجعا عاما في الثقة واشتداد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
أما الاختبار الثاني، فهو قدرة القوى الداعية للمسيرة على التحول إلى حزام سياسي.، فتشظّي أنصار الرئيس، وعجز التنسيقيات عن الهيكلة، وفشل أبناء المسار في التحول إلى قوة إضافة إلى انكماش الأحزاب المساندة، كلها عوامل جعلت محيط الرئيس هشًا ومفتوحًا على الفراغ.
و مسيرة 17 ديسمبر قد تشكل اللحظة التي تسعى فيها هذه الأطراف لبلورة تقاطع عملي بينها، ولو ظرفي، يقدّم صورة «كتلة» سياسية–اجتماعية يمكن أن يُبنى عليها لاحقًا، وفشلها سيعيد إنتاج المشهد نفسه، دوائر ولاء متناثرة، غير قادرة على التنظيم، تتحرك كلما دعيت.
لذلك ستكون مسيرة 17 ديسمبر مناسبة لاختبار الوزن الحقيقي للمجموعات التي تتحرك باسم الرئيس، وقدرتها على التحول من مجموعات مبعثرة إلى قوة سياسية لها ملامح وهوية. ستكون لحظة تكثيف لكل الأسئلة التي ظلت معلّقة منذ 25 جويلية، من يمثل الرئيس؟ من يشكل محيطه؟ ومن يستطيع أن يملأ الفراغ السياسي الذي يتركه حوله؟
أسئلة لن يجيب عنها الخطاب بل الشارع، ولن يحددها الشعور بالولاء بل ما إذا كان هذا الولاء قادرًا على التنظيم، على البناء، وعلى أن يقدّم أكثر من مجرد حضور في مسيرة هي بمثابة تحالف المتنافسين عن من يمتلك الشرعية لقول “نحن أنصار الرئيس الحقيقيون”؟ في حرب مواقع يدركها كل طرف.
فالبعد الحقيقي لمسيرة 17 ديسمبر يتجاوز التفاصيل التنظيمية، فهي ليست مجرد مظاهرة دعم، بل محاولة لإعادة هندسة المشهد حول الرئيس، محاولة لقول إن هناك كتلة اجتماعية مستعدة للظهور، وإن هناك نواة سياسية يمكن أن تتحول إلى حزام، وان أنصار المسار لا يزالون قادرين على حماية المشروع.
وبكلمات توضح، المسيرة ليست سوى محاولة لصنع حزام سياسي من الأسفل، بدل أن يصنعه الرئيس من الأعلى في لحظة سياسية مكثفة تتضمن اختبار للحشد، اختبار للولاء، واختبار لقدرة الموالاة على الوجود كقوة سياسية في مشهد لا يسمح فيه الرئيس بالوسائط