من مبدإ مونرو إلى صراع المعادن: أميركا ترسم حدود نفوذها وإفريقيا أرض الصراع من جديد

هناك وثائق تُنشر لِتحدِث صدىً في العالم وتعلن

عن تغييه. ووثيقة «استراتيجية الأمن القومي الأميركية 2025» تنتمي إلى هذا الصنف من الوثائق، اذ هي ليست مجرد نص يعلن النوايا بقدر ما هي إعلان عن مرحلة جديدة في التفكير الأميركي، مرحلة تتجاوز ما عرفناه لا فقط منذ نهاية الحرب الباردة، بل منذ عشرينيات القرن الفارط، لتضع الولايات المتحدة على طريق مختلف، لا هو انعزال كامل، ولا هو عودة إلى الليبرالية التدخلية، بل صيغة هجينة من الواقعية والانعزالية تكشفها مقاربة الانخراط الانتقائي.

إذ تقدّم «استراتيجية الأمن القومي الأميركية 2025» نفسها كوثيقة توجيهية للسياسة الخارجية الأميركية، لكنّ مضمونها يكشف بما لا يدع مجالًا للشك أنّنا أمام نصّ هو بمثابة إعلان عن تحوّل في المزاج الأميركي، وعن نهاية مرحلة وبداية أخرى، تُحيي نهجًا قديمًا مع تطعيمه ببعض الواقعية السياسية التي يتميّز بها المحافظون عن الليبراليين/الديمقراطيين.

فالولايات المتحدة، التي أدارت لعقود النظام الدولي على قاعدة الهيمنة والاحتواء، ولاحقًا الانخراط الواسع، راوحت بين الدفاع عن مصالحها وبين الدفاع عن “النظام الليبرالي”، لكنها تختار اليوم ردها وتختار اليوم أن تراجع هذا الدور، وأن تضع حدودًا جديدة لالتزاماتها، وأن تصوغ علاقة أكثر واقعية وأكثر ارتباطًا بالداخل والمصالح الأميركية، وبما تعتبره أساس قوّتها واستمرار نفوذها، دون أن تغفل عن مجالها الجغرافي القريب.

الوثيقة لا تخفي هذه النقلة، بل تُقدّمها كتحوّل ضروري، ناجم عن إدراك بأنّ العالم تغيّر، وبأنّ القوة لم تعد فقط في الموازين العسكرية أو التحالفات التقليدية، وإنما في الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا والمعادن النادرة، وفي القدرة على حماية تلك العناصر من دون إهدار موارد في التزامات تعود بالنفع على الآخرين أكثر مما تفيد الولايات المتحدة نفسها.

هنا تحديدًا تُعلن واشنطن أنّ زمن مظلّتها الأمنية وزعامتها للتحالف الغربي من دون مقابل انتهى، وأنّ سياستها الخارجية ستتأسّس على معادلة جديدة، تدخّل انتقائي، محسوب ومشروط، وفق ما تفرضه المصالح الأميركية لا مصالح حلفائها، وخاصة منهم الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم يواجهون ما حذّر منه الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول، الذي نبّه إلى مخاطر التبعية الأوروبية الأمنية لواشنطن، ونبّه إلى تكلفتها وتكلفة رفعها دون استعداد أوروبي.

هذه الوثيقة التي أُعلن من خلالها إحياء مبدأ مونرو الداعي إلى التعامل مع أميركا الجنوبية كساحة نفوذ وامتداد للمجال الجغرافي الأميركي، لا تحجب هواجسها ولا خيطها الناظم، بل تعلن صراحة أن جوهرها يتمثل في كيفية نظر الولايات المتحدة إلى الصين، فهذا هو صلب الوثيقة ونطاق التحوّل الذي تكشفه. فالمنافس الذي كانت واشنطن تتعامل معه في السنوات الماضية كقوة صاعدة ضمن النظام الاقتصادي العالمي يمكن احتواؤها، بات اليوم خصمًا بنيويًا قادرًا، إن تُرك دون تقييد، على إعادة صياغة قواعد اللعبة الدولية.

فالصين التي لا تنظر إليها واشنطن على أنها قوة عسكرية تهدّد حدودها أو نفوذها المباشر، رغم ما حقّقته بكين في هذا المجال وامتلاكها تكنولوجيات عسكرية متقدمة نسبيًا، تُقدَّم اليوم كمنافس شامل على أهم عناصر النفوذ في القرن الحادي والعشرين: التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، الحوسبة الكمّية، المعادن النادرة، سلاسل التوريد، وشبكات البنى التحتية العابرة للقارات. وهنا تكمن أهمية التحوّل الذي يعلن الانتقال من سياسة الاحتواء العسكري بالأساس إلى صراع شامل ومفتوح على مستقبل الاقتصاد العالمي، وعلى من يملك مفاتيحه، ولكن بعيدا عن المجال الترابي للصين.

فالوثيقة تجعل من أفريقيا، قلب هذا التنافس، ساحة مركزية أكثر من أي وقت مضى. إذ تتضمّن الاستراتيجية الأميركية إقرارًا ضمنيا بأنّ الصين حقّقت تقدّمًا واسعًا في القارة عبر مشاريع البنية التحتية والموانئ والتعدين. وأمام هذا الواقع، تتّجه واشنطن نحو صياغة مقاربة مختلفة للعودة إلى القارة، شعارها تأمين الموارد الحيوية التي لا يمكن أن يستغني عنها الاقتصاد الأميركي والتي تضمن ريادته، خلافا لما رفعته استراتيجيات سابقة، سواء الليبرالية أو الواقعية، من شعارات “الديمقراطية” أو “الشراكة التنموية”. والهدف هنا صريح وواضح، بناء شبكات نفوذ اقتصادية وتقنية أميركية تضمن تقييد التمدّد الصيني وتحوّل دونه ودون المعادن النادرة بالأساس. والأمر لا يختلف كثيرا في علاقة بالنصف الجنوبي من القارة الأميركية، فهو إلى جانب كونه امتدادا للمجال الجغرافي الأميركي وفق الإدارة الجديدة، يجب تأمينه وفرض الهيمنة المطلقة عليه، لكونه أيضا مخزونا هاما من المعادن النادرة والطاقة، خاصة فنزويلا.

بهذا المعنى، نجد أنفسنا أمام عودة أميركية إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية، لكنّها عودة بصيغة أخرى، محكومة بالمنافسة على المعادن والسيطرة على مسارات التجارة، لا بوعود إصلاح سياسي أو تحوّل ديمقراطي. وهذا ما يرسّخ حقيقة المقاربة الأميركية الجديدة، القائمة على المزج بين الانعزالية والواقعية، تجعل السياسات الخارجية الأميركية انتقائية مشروطة، توجّه كامل الجهد والطاقة للدفاع عن مصالح اقتصادية مباشرة لا عن مجال نفوذ فقط.

وهنا تكمن أهمية الوثيقة، فهي لا تقول الكثير عن دول شمال أفريقيا، خاصة تونس أو الجزائر أو المغرب، إذ إنّ ذكر المنطقة محدود. ولكنها ستطالها، بشكل مباشر أو غير مباشر، تداعيات هذه الاستراتيجية الجديدة التي تعلن عن العالم الذي نقترب منه.

عالم لن تديره قوة واحدة بالكامل، ولن تحكمه قيم موحّدة، بل سيخضع لمعادلات ومساومات بين القوى الكبرى وبالاساس الولايات المتحدة الأمريكية والصين، اللتين تعدان اليوم توزيع أدوات التأثير. عالم تتراجع فيه الحروب المباشرة لصالح صراعات حول الموارد الحيوية والممرات البحرية والتكنولوجيا، وتزداد فيه الحاجة إلى إعادة تموضع الدول المتوسطة حتى لا تجد نفسها خارج حسابات القوى المتنافسة.

وهو ما يجعل من الوثيقة رسالة موجّهة للجميع، تعلن فيها الولايات المتحدة أنّها لا تنسحب من العالم، لكنها أيضا لا تعود إلى النهج الذي اتبعته منذ نهاية الحرب الباردة. بل تبقي على نفوذها، وتستعدّ للمنافسة، ولكن وفق منطق القوة الواقعية، لا منطق “النظام الليبرالي” الذي بُني على التدخّل والانفتاح غير المشروط.

هذه ليست مجرد استراتيجية أمنية، بل وثيقة ترسم معالم نظام دولي جديد، تصبح فيه أفريقيا منطقة نفوذ حيوية، والصين خصما استراتيجيا، والتكنولوجيا محور القوة، وتجبر فيه المناطق التي كانت على هامش المنافسة الكبرى على التفكير من جديد في كيفية حماية موقعها ومصالحها في عالم يتغيّر بسرعة

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115