إلى تصوّرات مسبقة تدفع بالناظر إلى أن يكتفي بما كان ظاهراً جلياً ويهمل ما خلف الأرقام. هذا ما يسمّيه الإحصائيون «فخّ الناجي»، وقصدهم أنه حينما يقع بناء استنتاجات على الجزء المرئي من الصورة، بينما الحقيقة تكمن في المساحات التي غابت عن النظر.
وفي الاقتصاد، يصبح هذا الفخّ أكثر خطورة عندما نقع في فخ رقم النمو وننظر إليه باعتباره دليلاً على التعافي، دون مساءلة ما يُخفيه من مؤشرات أعمق كارتفاع البطالة والانسحاب الصامت من سوق الشغل، وتراجع قدرة الدولة على إدماج مواطنيها في الدورة الاقتصادية.
وهذا ما تقدّمه قراءة متأنية في الوثيقتين الصادرتين نهاية الأسبوع الفارط عن معهد الإحصاء بشأن التشغيل والنمو للثلاثي الثالث من سنة 2025. فنسبة نمو بـ 2.4 % للثلاثي الثالث قد تبدو للوهلة الأولى مؤشراً على مسار إيجابي. لكن ما إن ننظر إلى ما يتفرّع عن هذا الرقم من تفاصيل ومعطيات حتى يتّضح أنّ اقتصاد البلاد لا يزال بعيداً عن «الانتعاش» الذي يُروَّج له رسمياً.
فحين ننظر إلى الأرقام بتمعّن نجد أنها لا تعزّز ولا تثبت الروايات الرسمية التي سُوِّق لها في بيان الحكومة بشأن قانون المالية الذي قدّم سرديات “التحسّن” و“الاسترجاع”. فالتفاصيل لا تقول إننا أمام اقتصاد يستعيد أنفاسه، بل تقدّم صورة أكثر تركيباً وأقلّ انسجاماً. فنسبة النمو المعلن عنها لا تنعكس في سوق الشغل. بل على العكس، يتقلّص عدد المشتغلين، وتتراجع نسبة النشاط، وتتّسع الفجوات بين الفئات، كأنّ الاقتصاد يتحرّك على ورق بينما يتحرك المجتمع على أرض أخرى تماماً.
مفارقة تبرزها مؤشرات التشغيل والبطالة، إذ تخبرنا الأرقام أنّ عدد النشيطين انخفض قليلاً، وأن نسبة النشاط واصلت تراجعها البطيء. في ظاهر الأمر قد يبدو التغيير محدوداً، لكنه في العمق يعكس ظاهرة أشدّ خطورة؛ فئات كاملة، وخاصة الشباب والنساء، قد تكون تخلّت تدريجياً عن محاولة دخول السوق. وهذا ما يُصطلح عليه في الاقتصاد بـ»الخروج الصامت» الذي لا يُقاس بالنسب بل يُقاس بما يتركه من أثر على الثقة في الدولة وفي المستقبل.
وهنا يبرز ارتفاع نسبة البطالة إلى 15.4 %. وإن كان الأهم والأكثر دلالة هو كيفية توزيعها، فالبطالة في صفوف النساء تتجاوز 22 %. أمّا إن بحثنا عن نسبتها في شريحة الشباب سنجدها تصل إلى 40 %. وإن نظرنا إليها وفق المؤهلات الأكاديمية والتعليمية سنجدها عند حملة الشهادات العليا تقترب من الربع تقريباً، 24.9 بالمئة. هذه الأرقام تقول بوضوح إنّ تونس، التي تراهن منذ عقود على التعليم كرافعة اجتماعية، وعلى الشباب، وعلى تقليص الفروق الجندرية في السوق، باتت عاجزة عن تحقيق أهدافها كما أنها غير قادرة على إدماج أبنائها في دورة اقتصادية مستدامة.
ولا تكتفي الأرقام الخاصة بالتشغيل بهذا، بل تكشف عن هيكلة سوق الشغل التي يهيمن عليها قطاع الخدمات بالأساس، فهو الذي يستأثر اليوم بأكثر من نصف المشتغلين. هذه الهيمنة لا تعكس ديناميكية اقتصادية حقيقية بقدر ما تكشف هشاشة، فقطاع الخدمات وإن كان ضخماً، إلا أنه منخفض القيمة المضافة، يعتمد على أنشطة ظرفية كالسياحة والمطاعم والنقل، ولا يحدث سوى وظائف هشّة وموسمية وسريعة التآكل.
والأسوأ من ذلك أنّ توسّع الخدمات غالباً ما يكون تعبيراً عن انكماش القطاعات الأكثر إنتاجية، وفي مقدمتها الصناعة المعملية التي تشغّل اليوم أقل من 20 بالمئة، وهذا بمثابة إعلان عن أنّ الاقتصاد التونسي في طور التحوّل إلى منظومة غير متوازنة، قاعدتها الأعرض هي القطاعات الأقل قدرة على دفع النمو، بينما تبقى القطاعات القادرة على خلق الثروة الحقيقية عاجزة عن التمدّد. وفي هذه المعادلة، يصبح التشغيل نفسه مؤشراً عن أزمة الاقتصاد التونسي الذي وإن كان يوفّر وظائف فإنه لا يقود إلى المستقبل.
فالمستقبل المستدام يشترط نمواً مستداماً، وهو ما لا يتوفّر حالياً في تونس. فمؤشرات النمو التي كُشف عنها تُبيّن أنّ الفلاحة هي المحرّك الرئيسي للنمو، لتساهم بمفردها بقُرابة نقطة كاملة، مما يكشف أننا إزاء نمو وإن كان إيجابياً فإنه موسمي ومرتبط بالسنة الفلاحية أكثر مما هو مرتبط بسياسات اقتصادية أو بتحوّل هيكلي. وهذا ما تؤكده نسبة النمو في الصناعات المعملية التي بالكاد حققت نسبة نمو بـ 1.6 بالمئة، بينما يستمر التراجع في الصناعات غير المعملية والطاقة والمناجم، وهي قطاعات يُفترض أنها تحمل ثقل الدولة وقدرتها على خلق الثروة.
خلف هذا المشهد، هناك عنصر آخر لا يقلّ أهمية، وهو الطلب الداخلي. فالنمو الذي نعلنه مبني أساساً على استهلاك تموّله واردات ترتفع بوتيرة أعلى من الصادرات، وهو ما يجعل صافي المبادلات الخارجية يساهم سلباً في النمو، أي أن الخارج يلتهم جزءاً من الثروة التي نحقّقها في الداخل. وهذا ليس تفصيلاً تقنياً، بل إشارة إلى اقتصاد يستهلك أكثر مما ينتج، ويستورد أكثر مما يصدّر، ويعيش على إيقاع هشّ لا يضمن استدامة. وربما هذا ما دفع رئيسة الحكومة في كلمتها أمام المجلس إلى الإعلان عن تقييد الواردات.
بقراءة كل الأرقام وفي سياقها الأوسع، سيتّضح أننا لسنا أمام “انتعاش” بل أمام اختلال. اقتصاد يتقدّم في مؤشراته الكلّية، لكنه يتراجع في مؤشراته الاجتماعية. اقتصاد قادر على تسجيل نسب نمو، لكنه عاجز عن تحويلها إلى شغل، وإلى إدماج، وإلى تحسين ملموس في حياة الناس.
وهذه الصورة التي تكشفها الأرقام ليست قاتمة بالضرورة، لكنها بعيدة عن الخطاب المتفائل الذي يُراد له أن يسيطر على المشهد. ما تخبرنا به الأرقام هو أننا أمام اقتصاد يبحث عن توازنه، بين الاستهلاك والإنتاج، بين القدرة على خلق الثروة والقدرة على توزيعها. ولكنها بالأساس تخبرنا بأن الحلول لن تأتي من نسب النمو، بل من إعادة التفكير في كيفية صناعته ومن يستفيد منه.
أزمتنا ليست في غياب النمو بل في جودته واستدامته. فما حققه الاقتصاد التونسي خلال الثلاثي الثالث من سنة 2025 هو للوهلة الأولى نمو إيجابي، لكنه بجودة ضعيفة؛ فهو نمو يعجز عن خلق فرص عمل بل يخسرها أحياناً، وبالتالي لا يحقّق إدماجاً اجتماعياً، خاصة وأن البطالة مرتفعة جداً لدى الشباب والنساء. كما أنه نمو غير قادر على بناء قاعدة صناعية أو تصديرية قوية، فهو نمو يعتمد على طلب داخلي هشّ وعلى قطاعات موسمية.
وهذا، تحديداً، ما تقوله الأرقام ان وضعت في سياقها العام ولم نقع في فخ الناجي اي النظر لما يظهر فقط من نسبة النمو دون بحثا عن سياقها وتفاصيلها التي قد تحجب عنا خلف الرقم الايجابي، فان وقعنا في ذلك يمكننا العودة لمعاش التونسيين والبحث عن فهم المفارقة بين ما تحمله الارقام وما يخضوه الناس في واقعهم