تعليق نشاط «النساء الديمقراطيات» لمدة شهر: هل تحوّل المرسوم 88 إلى أداة ضبط ؟

نهاية الأسبوع الفارط أعلنت رجاء الدهماني

رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، أنها تلقت قرارًا بتعليق نشاط الجمعية لمدة شهر. قرار لا يمكن النظر إليه كحدثٍ معزول أو إجراء إداري عابر، بل يبدو أقرب إلى خطوة قطعتها السلطة في مسار عنوانه الراهن التضييق التدريجي على الفضاء العام بخنق المجتمع المدني، وذلك ضمن تصور أشمل لإعادة رسم العلاقة بين الدولة ومكوناتها.

وما يعزز هذه المخاوف أن تبرير السلطة لقرارها، وفق ما نقلته رئيسة الجمعية، استند إلى ما تعتبره مخالفات مالية وإدارية، استنادًا إلى فصول المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المنظم للجمعيات، وهو ما تنفيه الجمعية التي تشير إلى أنها التزمت بتسوية النقاط التي أشار إليها إشعار أرسلته السلطات في نوفمبر 2024.

هنا، ما تعلنه الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات هو أنها سوّت وضعيتها القانونية، وهو ما قد يتركنا أمام فرضية وحيدة، وهي أن السلطات المعنية أعادت تأويل نص المرسوم من خارج فلسفته الأصلية ــ التي وُضعت بعد الثورة وهدفت إلى تكريس حرية التنظيم وفتح المجال أمام المبادرة المدنية ــ بما يسمح باستخدام المرسوم وفصوله كأداة ضبط ومساءلة تُفعّلها السلطة كلما ارتفع صوت نقدي أو عبّر فاعل مدني عن موقف لا يرضي المزاج الرسمي. وهكذا يتحول النصّ من ضمانة للحرية إلى غطاء لتوسيع دائرة السيطرة.

والخشية اليوم أن يكون هذا القرار، الذي لا يمكن فصله عن سياق أوسع يتمثل في فتح تحقيقات قضائية متصلة بالتمويل الأجنبي، ليس الأخير، بل فاتحةً لمرحلة جديدة تشرع فيها السلطات التونسية في غلق الفضاءات العامة وملاحقة المنظمات الوطنية التي تنتقد سياساتها أو تعارضها. وهي مرحلة قد تشهد تصعيدًا في الإجراءات التي اقتصرت في وقت سابق على فتح تحقيقات وتجميد أصول، لتكون اليوم خطوات صريحة في اتجاه تعليق النشاط والتوجه نحو القضاء لحلّ المنظمات.

خاصة أن الحجج التي تقدمها السلطة هنا لتبرير نهجها في ملاحقة عشرات المنظمات والجمعيات، أسوة بجمعية النساء الديمقراطيات، هي نفسها: التمويل الأجنبي، الإخلال بالشفافية، أو تجاوز الصلاحيات. كل ذلك ضمن خطاب قانوني لا يخفي منطق إعادة هندسة المجال العمومي وفق تصور سياسي يرى في الأجسام الوسيطة المستقلة مصدر إرباك لا شريكًا في المصلحة الوطنية.

فالسلطة التونسية، ومنذ أربع سنوات، كشفت أنها فقدت ثقتها في الأحزاب والإعلام الحر والمنظمات، ويبدو أنها اليوم في صدام جديد مع المجتمع المدني الذي نجح خلال السنوات الماضية في الحفاظ على الحد الأدنى من الحراك في الشارع ومن تنوع المشهد.

والمثير للخشية في هذا المسار أن تبرير السلطة هنا هو حماية السيادة الوطنية من اختراقات خارجية، وهو الخطاب ذاته الذي سبق حملة من الإيقافات والاعتقالات خلال السنتين الماضيتين، مما يوحي بأننا إزاء محاولة جديدة لضبط وفرض السيطرة على فضاء الكلمة والتنظيم في تونس. وهذه المرة، بعد أن تم تحجيم الإعلام وإضعاف الأحزاب، جاء الدور على المنظمات والجمعيات، الطرف الأكثر حيوية وقدرة على العمل خارج منطق الولاء السياسي.

وما يُثير القلق في هذا المسار ليس فقط تقييد الجمعيات، بل ما يعكسه من تحول في فلسفة الحكم نفسها. فحين تُختزل السيادة في الشك بكل ما هو مستقلّ، ويتحول القانون إلى وسيلة لإعادة الهيمنة الإدارية، نكون أمام دولة تعيد إنتاج منطقها القديم، دولة تهاب المجتمع بدل أن تثق فيه، وتتعامل مع الاستقلالية كمؤامرة لا كحقّ.

القرار ضد جمعية النساء الديمقراطيات، بما تمثله من رمزية في الدفاع عن الحقوق والحريات، يفتح الباب أمام مرحلة قد يكون عنوانها إعادة الهيمنة على المجال العمومي، عبر خطوة تهميش المجتمع المدني، التي تعني بالضرورة إضعاف الرقابة على السلطة وتراجع ضمانات الشفافية، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى انفتاح وشراكة حقيقية بين الدولة ومكوناتها المدنية لمواجهة أزماتها الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.

ولا أحد يعترض على حق الدولة في مراقبة التمويلات أو المطالبة بالشفافية، فذلك من صميم واجبها. لكن المشكلة تكمن في المنهج الذي اختارته، فحين تُمارس الرقابة بلا قضاء وضمانات، والعقوبة بلا محاكمة، وتُطلق التهم بلا أدلة، نكون أمام انحرافٍ ينشر الخوف ويعممه على كل التونسيين.

 

فما حدث لا يبدو أنه مجرد خلاف حول تطبيق مرسوم أو ضبط تمويل، بل هو صراع خفيّ تشنه السلطة لتحديد من يملك الحق في تعريف المصلحة العامة وحدود التحرك في الفضاء العمومي الذي تريد أن تستعيد كل المساحات التي ما زالت بعيدة عن قبضتها. وهذا يدفع بالبلاد إلى أن تتأرجح على حافة سؤال جوهري: هل يستطيع المجتمع أن يدافع عن حريته دون أن يُتّهم بالخيانة؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115