إلى جانب شخصيات وطنية مستقلة، عن مبادرة «الالتزام الوطني»، يعود سؤال قديم ومتجدّد ليحرّك ركود المشهد السياسي التونسي، وهو هل ما يزال ممكنًا استعادة الفعل السياسي القادر على بناء المشترك خارج منطق الاستقطاب وثنائية «نحن» و»هم» التي تحكم البلاد منذ سنوات؟
ففي المشهد العام الذي تعيشه تونس منذ 25 جويلية، لم تعد السياسة مجرّد منافسة بين رؤى أو برامج، بل تحوّلت إلى مواجهة وجودية بين سلطة تفرض سرديتها ومبادرتها على الدولة والمجتمع، ومعارضة مشتّتة لا تمتلك لا الإيقاع ولا المبادرة. ومن هنا تبدو خطوة تكوين جبهة «الالتزام الوطني» محاولة جديدة لاستعادة الفضاء السياسي الوسيط، ذاك الفضاء الذي تقلص مع انهيار الأحزاب الكبرى وشيطنة العملية السياسية.
فخطوة الوطني الحر، والحزب الاجتماعي التحرري، وحركة «حق»، إلى جانب شخصيات مستقلة، في تكوين تحالف سياسي جديد، ليست أول محاولة لإعادة تنظيم المشهد خارج منظومة الحكم وخارج الأطر الحزبية التقليدية. لكنها، شأنها شأن سابقاتها، تعبّر عن قناعة جماعية بأن الزمن السياسي الراهن، كما صاغته السلطة منذ 25 جويلية، بلغ درجة من الانسداد المزدوج، سلطة مطلقة تعيد هندسة الدولة وفق رؤيتها ومشروعها، ومعارضة مشتّتة لم تنجح بعد في بلورة خطاب جامع يُقنع الشارع أو يُعيد له ثقته في العمل السياسي.
وفي هذا السياق، تقدّم جبهة «الالتزام الوطني» نفسها كمحاولة لاستعادة الفضاء السياسي الوسيط وتفعيل المجال المدني، وتستند في خطابها إلى فكرة الإنقاذ عبر إعادة تعريف السياسة باعتبارها فعلًا عقلانيًا، يقوم على التفاوض والتعدد والبحث عن المشترك. وهي بذلك تضع نفسها أمام امتحان صعب، هل تستطيع فعلاً تحويل شعار “الإنقاذ” إلى ممارسة سياسية جديدة، أم ستظل حبيسة اللغة والمواقف الرمزية؟
فالجبهة الجديدة ستكون مطالَبة بأن تثبت أنها ليست مجرّد تجمّع لشخصيات عائدة من الماضي، ولا نسخة مكرّرة لجبهات المعارضة التي أرهقها الخلاف حول أولويات العمل المشترك، رغم اتفاقها في الموقف من مسار 25 جويلية ومن تركّز السلطة في يد رئيس الجمهورية. فالتحدي الحقيقي أمامها لا يقتصر على بلورة خطاب نقدي للسلطة، بل يتجاوز ذلك إلى بناء سردية سياسية قادرة على إقناع التونسيين بأن السياسة ما زالت ممكنة، وأن الفعل المدني لا يزال قادرًا على إنتاج المعنى.
ومن هنا تنبع أهميتها المحتملة داخل المشهد السياسي الأوسع، الذي عجز منذ 2021 عن إنتاج أرضية مشتركة بين مكوناته المعارضة. فنجاح «الالتزام الوطني» يتوقف على قدرتها على أن تكون نقطة التقاء لا نقطة تفرّق، ومنصة للحوار لا مجرد عنوان سياسي عابر والسؤال الذي سيواجهها — كما واجه المحاولات السابقة — هو ما إذا كانت قادرة على التحول من مبادرة رمزية إلى قوة سياسية فاعلة. وسيكون الجواب مرهونًا بقدرتها على مخاطبة الشارع التونسي الذي فقد ثقته في الطبقة السياسية برمّتها، وبمدى نجاحها في بناء جسور مع قوى سياسية ومدنية أخرى تتشارك معها القناعة بأن استعادة السياسة تمرّ عبر الفعل الجماعي لا عبر الزعامات الفردية.
قد لا تغيّر الجبهة موازين القوى في المدى القصير، لكنها، إن أحسنت تنظيم خطابها ونسج تحالفاتها، يمكن أن تفتح أفقًا جديدًا للمعارضة المدنية في تونس، أفقًا يقوم على فكرة المشاركة لا الإقصاء، وعلى إعادة السياسة إلى معناها الطبيعي، فن إدارة الاختلاف لا تكريسه.
أما في المدى المتوسط، فإن قدرتها على التقاطع مع مبادرات مشابهة مثل “مبادرة القوى الوطنية الديمقراطية” أو بعض المكونات النقابية والمدنية ستحدّد إن كانت مجرّد مبادرة رمزية في زمن الانسداد، أم نواةً لإعادة بناء المشهد السياسي على أسس جديدة: عقلانية، تشاركية، وغير إيديولوجية، أي على تلك الأرض التي غادرتها السياسة منذ زمن، وتبحث اليوم عن سبيلٍ للعودة إليها.