وقناعته العميقة بأنه سيد العالم، فالرجل ظل محافظًا على تقاليده، فهو حين يقرر أن يلقي بحجر ثقيل في لحظة سياسية يختارها بعناية يتجه إلى منصته «تروث سوشيال»، التي أصبحت مسرحه الخاص لإطلاق الوعيد والتهديد وإرسال الرسائل المشفرة.
وهذه المرة أعلن الرئيس الأمريكي عن «إنذار أخير» مرة أخرى للمقاومة الفلسطينية، فهي إما أن تقبل شروط مبادرته الجديدة لتبادل الأسرى وفتح مفاوضات لإنهاء الحرب في غزة، أو أنها ستتحمل كامل العقوبات وغضب الإدارة الأمريكية التي لم تستأ يومًا من نكوص الاحتلال عن تعهداته لها ولا من تراجعه عن التزاماته ومبادرات سقطت في اللحظات الأخيرة.
هذا الإعلان الفج عن مبادرة الجديد القديمة التي يعلن ترامب أن الاحتلال قبل بها، وأن مصيرها اليوم معلق بيد المقاومة التي عليها أن ترضخ له ولشروطه مقابل لا شيء تقريبًا، إن فُككت أبعادها وخضعت لقراءة لما بين سطور التدوينة التي أعلن عنها، سنجد أنه بعيدًا عن البريق الإعلامي والضجيج المتعمد من قبل الاحتلال والإدارة الأمريكية معًا، فإن ما يقدمه ترامب هو مسار سياسي ملغوم، لا يهدف بالضرورة إلى إنهاء حرب الإبادة بقدر ما يسعى إلى إعادة هندسة المشهد بما يخدم أجندة الاحتلال ويمنحه نصرًا سياسيًا عجز عن انتزاعه عسكريًا.
إن المبادرة، في تفاصيلها التي بدأت تتكشف، ليست سوى إعادة إنتاج للشروط القديمة للاحتلال في غلاف أمريكي يريد أن يستبق اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية الشهر الحالي، والمنتظر أن تعلن فيه عدة دول عن الاعتراف بدولة فلسطين، بأن يعيد خلط الأوراق ويدفع بالقضية الفلسطينية (مقاومة ومسار تفاوضي) إلى متاهات جديدة تكرر مسار أوسلو الذي جعل من حل القضية الفلسطينية رهينة المفاوضات الثنائية برعاية أمريكية، وما انجر عن ذلك المسار من نتائج.
هذه الصفقة التي قدمها ترامب في تدوينته على أنها صفقة سخية، إطلاق سراح كل أسرى الاحتلال لدى المقاومة في اليوم الأول مقابل إطلاق الاحتلال للأسرى الفلسطينيين من سجونه ووقف لعمليات مركبات «جدعون 2»، أي أن الرجل يضع على الطاولة تبادلاً للأسرى وهدنة برية مؤقتة ووعدًا شخصيًا بفتح مفاوضات لإنهاء الحرب.
هنا يكمن جوهر الفخ ومكمن الخديعة التي تعتقد الإدارة الأمريكية أنها قادرة على تمريرها وإجبار المقاومة على قبول الوقوع فيها تحت إكراه استمرار التقتيل والتجويع أو الاستسلام مع الأمل أن يكون وعد ترامب ضمانة كافية لإنهاء الحرب لاحقًا.
ما يقدمه ترامب من تعهدات شخصية غير ملزمة لإدارته يتناقض كليًا مع أبجديات السياسة الواقعية التي لا قيمة للوعود الشفهية فيها، خاصة حين تأتي من قبل دونالد ترامب الذي كان عنصرًا فعالًا في استراتيجية التضليل لتوفير غطاء للاحتلال لاستهداف منشآت البرنامج النووي الإيراني.
أي أن ترامب وإدارته لم يكونا يومًا وسيطًا نزيهًا، بل كانا على الدوام الشريك الاستراتيجي والضامن لوجود الاحتلال وتفوقه في المنطقة، وهذا ما سبق لأبرز وجوه إدارة بايدن أو ترامب أن أعلنوه بصراحة منذ بداية حرب الإبادة في 2023.
ولكن مع ذلك يطالب ترامب من المقاومة الفلسطينية أن تثق بكلمته وأن تقفز بيدين مكبلتين إلى المجهول، إذ ليس خافيًا على أي متابع لتاريخ الاحتلال أنه يتنصل بشكل منهجي من كل الاتفاقيات، وآخرها كان اتفاق الهدنة السابق، فالاحتلال الذي التزم بمفاوضات لإنهاء الحرب إثر استكمال مرحلة تبادل الأسرى تنصل من التزاماته واستأنف حربه بوتيرة متسارعة وعنيفة بغطاء أمريكي مطلق، يحول واشنطن من موقع الوسيط المفترض إلى موقع الطرف المباشر في الصراع.
هذا الانحياز التاريخي يسحب أي مصداقية عن أي مبادرة أمريكية لا تحمل في طياتها ضمانات دولية حقيقية وفاعلة، تشارك فيها قوى أخرى قادرة على لجم الاحتلال ومنعه من العودة إلى سيرته الأولى بمجرد أن يحقق هدفه العاجل المتمثل في استعادة أسراه. لذلك، فإن موقف المقاومة الفلسطينية، الذي تمسك بضرورة الحصول على تعهد واضح بإنهاء الحرب وانسحاب كامل للاحتلال، لا يمكن قراءته كـ»تعنت» كما قد تروج له آلة الدعاية التابعة للاحتلال، بل هو تعبير عن وعي سياسي عميق، نابع من تجارب مريرة.
فالمقاومة تدرك تمامًا أن القبول بمبادرة ترامب دون التزام واضح وضمانات فعلية بإنهاء الحرب يعني منح الاحتلال فرصة لإعادة التموضع، وتفكيك بنية المقاومة، ثم استئناف العدوان في ظروف تكون فيها غزة أكثر عزلة وضعفًا. ويجعلها تقبل مكرهة بشروط الاحتلال لإنهاء الحرب، أهمها «نزع سلاح المقاومة» وتفكيك بنيتها التحتية مقابل وقف للحرب، وهو ما يكشف عن الهدف النهائي للمبادرة التي يبدو أنها تبنت أهداف الاحتلال من حرب إبادته المعلنة، وأهمها تصفية أي قدرة فلسطينية على الدفاع والمقاومة.
وهذا ما يفسر ترحيب الاحتلال بالمبادرة السريع وإعلانه عن أنه يدرسها، وهو رد تكتيكي يمنح الاحتلال وحكومته التي تآكلت شرعيتها في الداخل وتتزايد عزلتها في الخارج، مخرجًا ويلقي بالكرة في ملعب المقاومة لتحميلها مسؤولية أي فشل محتمل للمفاوضات، وفي ذات الوقت لا يلزمها بتقديم أي تنازل استراتيجي حقيقي.
مما يعني أننا أمام مشهد سياسي معقد، تُستخدم فيه القوة السياسية كأداة لاستكمال ما لم تحققه القوة العسكرية. ومبادرة ترامب، بكل ما تحمله من وعود وتهديدات، تبدو أقرب إلى مناورة وصفقة مصممة لتلبية مطالب الاحتلال، أكثر من كونها مشروعًا حقيقيًا لسلام عادل. ويبقى صمود المقاومة وتمسكها بثوابتها هو خط الدفاع الأخير