فيما يسمى ببلدان الجنوب الكلي (وفق ما يتاح لنا من ترجمات باللغتين العربية والفرنسية) سنلاحظ الحجم المتزايد المخصص لنقد الهيمنة الغربية سواء أتعلق ذلك بالجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية أو بعوالم الفلسفة والأفكار والايديولوجيات وثمة في مختلف القارات نزوع واضح للربط بين الأمرين أي بين الهيمنة المادية وتبريراتها الفلسفية والفكرية..
نجد الموقف الأكثر راديكالية عند بعض مفكري التيار الديكولونيالي ولا سيما «والتر مينيولو» صاحب الكتاب الشهير «La désobéissance épistémique» وقد حصل اختلاف بين فلاسفة تونس في ترجمة «désobéissance» وأصلها الانقليزي، ففي حين اختار فتحي المسكيني لفظة «العصيان» فضل محمد محجوب «اللاطاعة» باعتباره يعكس الصفة السالبة بطريقة أفضل..
اللاطاعة المعرفية أو اللانصياع المعرفي أو العصيان المعرفي كما يحلو لكل واحد منا تكشف عن توجه راديكالي لرفض كل مسلمات الحداثة الغربية وخاصة ادعائها الكونية.
ولكن كيف نفكر؟ ومع من؟ وضدّ من؟
هنا لا نرى الوضوح الكافي لدى «مينيولو» هنالك دعوة غامضة للربط مع طرق التفكير والوجود والحياة التي سعى الاستعمار للقضاء عليها ولكن كيف نبني العيش المشترك اليوم؟ وما هي القيم التي ينبغي أن تحدد أسس المواطنة؟ وما هو طبيعة الانتظام السياسي الذي ينبغي اقراره في مجتمع تخلص نهائيا من الهيمنة الغربية؟
لا نجد عند أهم المفكرين في التيار الديكولونيالي اجابات واضحة ربما باستثناء انريكي دوسال «Enrique Dussel» الذي يدعو في كتابه « 1492، تغييب الآخر» «L'occultation de l'Autre 1492» إلى تعويض الكوني (Universel) الغربي المزعوم بالكونية المتعددة (pluriversel) وأن هذه الكونية المتعددة لا ترفض العقلانية كما طورها الفلاسفة الغربيون بل ترفض الهيمنة الكامنة فيها..
لو عدنا إلى «مينيولو» لوجدنا رأيا مختلفا خاصة عند سرده بعض الأمثلة العملية عمّا يجب أن يكون عليه التفكير اللامطيع فهو على امتداد كامل صفحات كتابه لا يذكر إلا ثلاثة مسلمين ساهموا في هذا التمرد وهم الامام الخميني و علي شريعتي الايراني وسيد قطب منّظر الراديكالية الاسلاماوية المصري..
عندما ننتقل إلى فضاء آخر، روسيا تحديدا، نجد وضوحا أكبر عند أهم أكبر منظري «الخلاص من الغرب» لـ ألكسندر دوغين صاحب كتاب «نظرية عالم متعدد الأقطاب»..
بالنسبة للمنّظر الروسي ذي الصيت الرائج في الكرملين، مقاومة الهيمنة الغربية المتمثلة اليوم في العالم ذي القطب الواحد (الولايات المتحدة) لن يكون الا باقامة عالم متعدد الأقطاب وهذه الأقطاب هي الحضارات الكبرى التي تحدث عنها من قبل «صامويل هنتغتن» في كتابه «صراع الحضارات» وهذه الحضارات الأخرى (كالروسية أو الأوراسية والاسلامية والصينية والهندية..) لكي تضع حدّا للمهيمنة الأمريكية ينبغي عليها لا فقط امتلاك الاستراتيجية الدنيا ولكن أيضا مناهضة النمط الغربي فكريا واجتماعيا... وهنا دوغين واضح للغاية، لا معيارية مطلقا للقيم الغربية وعلى كل حضارة أن تنهل من تقاليدها الدينية والثقافية والسياسية فالفرد وحقوق الانسان والديمقراطية الليبيرالية هي قيم غربية لا تلزم الا الغرب وحده.. وهذا ما يفسر الرواج الكبير لأفكار دوغين في أوساط أقصى اليمين الأوروبي، ولكن هذا لا ينفي عنه عمق التفكير وسعة الاطلاع والقدرة على الاستشراف.
ثمة مدرسة ثالثة أخرى في نقد الهيمنة الغربية يشتغل أصحابها على ما يسمى بالدراسات ما بعد الكولونيالية ومن أهم روادها الفلسطيني ادوارد سعيد والهنديين هومي بهابها وديباش شكرابارتي..
في كتابه الشهير «الاستشراق» يؤكد ادوارد سعيد أن نقده للفكر الغربي لا يعني العودة الى فكر «شرقي» ما بل هو نقد من موقع الاسهام في الكوني وأفقه القيم الكونية للحداثة ولحقوق الانسان، وهذ نقطة خلافية كبرى بين الديكولونياليين وأصحاب ما بعد الكولونيالية..
ثمة كتاب هام للغاية، ويمكن اعتباره من أهم الكتب التي صدرت خلال هذه العقود الأخيرة وهو كتاب الهندي هومي بهابها المترجم إلى العربية تحت عنوان «موقع الثقافة» أما ترجمته إلى الفرنسية فتحمل عنوانا أكثر وضوح «les lieux de la culture. Une théorie postcoloniale» في هذا الكتاب المرجع يطور بهابها الفكرة التالية: لا يمكن الخروج عن الهيمنة الفكرية الغربية بالرجوع إلى ماض ما لأن هذا الماضي قد ولى وانتهى ولم يعد بامكاننا استجلابه من جديد.. الاستعمار قد أضحى كذلك جزءا من ماضينا ومن حاضرنا ولم يعد بالامكان اقتلاعه كليا.. بناء الهوية الوطنية يقتضي اليوم الهجانة (L'hybridité) هجانة نؤسسها نحن وفق ما نراه ملائما لمستقبلنا.. فالهجانة مشروع وليست معطى وهي التي ستسمح لنا بمحاورة الآخر لأن الآخر قد أصبح جزءا منّا..
لا شك أن أنصار الحلول القصووية الطوباوية لا يحبون الهجانة بل تراهم في الشرق والغرب يلهثون وراء «نقاوة» ثقافية وحتى عرقية.. نقاوة متخيلة لأن الهجانة هي قدر كل المجتمعات الانسانية اليوم..
الهجانة تسمح لنا بأن نكون نحن نحن دون انقطاع ودون انغلاق والهجانة ليست فقط في علاقتنا بالغرب بل في علاقتنا بكل البشر بدءا بمن يشاركوننا نفس القارة والتي نفخر أننا أعطيناها اسمها ولكننا لا نتجاوز الاسم في غالب الأحيان..
الهجانة تسمح لنا أيضا برفض مزدوج: رفض الكونية المجردة الأورومركزية التي تقصى ولا تدمج ورفض النوايا المبيتة للعديد ممّن يدعون مقاومة الهيمنة الغربية وهم يحلمون بهيمنة أحيانا أشد شراسة ودمارا..
الهجانة تقول أن حقوق الانسان قيمة مطلقة ما دامت تشمل كل الجنس البشري على قدم المساواة وما دامت لا تكيل بمكيالين أو أكثر..
هجانة المساواة والحرية والحقوق بين الأمم والشعوب وداخل كل دولة، فلا معنى لمقاومة الهيمنة الغربية عندما تقترن بالظلم والاستبداد واستباحة الحقوق والحريات..
ينبغي أن نرفض الهيمنة الغربية وينبغي مع ذلك أن نرفض كل أصناف الهيمنة «المحلية».
ذلك هو نداء الهجانة اليوم