قمة عربية ورهانات جيوسياسية: I- الظاهر والخفي في التكتيك العربي

في البداية لم يوجد شيء يشير إلى رهانات خاصة للقمة العربية العادية الرابعة والثلاثين

التي انعقدت في بغداد يوم السبت 17 ماي الجاري .. فالتاريخ محدد منذ أشهر طويلة والقمم العربية متشابهة منذ عقود ..

قرارات يهز بعضها الجبال هزا ولكنها لا تزن في الحقيقة سوى الحبر الذي خُطّت به وعادة ما يكون اهم ما في هذه القمم غضب وفد من الوفود او مشادة كلامية – جلّها اختفى مع معمّر القذافي – وحتى حرب الابادة في غزة لم تكن لتغير شيئا يذكر والدليل على ذلك نتائج القمتين الاستثنائيتين: العربية الاسلامية في السعودية ( نوفمبر 2023) والعربية في مصر ( مارس 2025) واللتين لم تؤثرا مطلقا على مجريات الاحداث ، فما بالك بقمة عادية ..

ورغم كل هذا فلقد كانت رهانات قمّة بغداد محليا وإقليميا ودوليا ضخمة ورهانات مختلف الدول العربية الوازنة متباينة بل ومتناقضة، و كانت المفاجآت فيها هامة لا في ما يتعلق بالنصوص الختامية وبالمبادرات وبما يسمى بالمخرجات بل بالمناخات وخاصة بما لم يقل صراحة وعلانية ..

إن المتابع لوسائل الاعلام العراقية أياما قبيل انعقاد هذه القمة العادية يلحظ استنفارا غير عادي وكأن هذا الموعد الاعتيادي هو امتحان مفصلي للعراق ولقيادته السياسية الحالية فجلّ العناوين كانت تدور حول شعار «بغداد تحتضن» و«الدور الريادي للعراق» .

لقد كان الرهان معقودا على الحضور المكثف للقادة العرب كالتعبيرة الأهم لهذه العودة المزدوجة التي يتمناها قسط هام من العراقيين ،عودة العرب الى العراق وعودة العراق الى العرب. وبالنسبة للقادة العراقيين سيكون أفضل ترجمان لهذه العودة حضور رئيس مصر وولي العهد السعودي وملك الأردن وأمير قطر، اذ أن النجاح من عدمه يقاس بحضور هؤلاء أساسا وبعدد الرؤساء والملوك ثانية ..

كما استعدت العراق لاحتضان قمة ثلاثية على هامش هذه الدورة العادية ،قمة تضم العراق ومصر والأردن ..

ولقد استعدت العراق لكل هذه الأحداث أمنيا ولوجستيا وسياسيا كما ينبغي. وقد أصبحت لهذه القمة الثلاثية أهمية بالغة اثر القمة الخليجية التي جنى فيها ترامب تريليونات الدولارات، لكن يبدو ان اشياء قد حصلت في الكواليس – جلّها غير معلوم على وجه الدقة– جعلت ولي العهد السعودي وملك الأردن لا يحضران الى بغداد فألغيت تباعا هذه القمة الثلاثية وانخفض مستوى التمثيل الأرفع (اي الرؤساء والملوك ) الى حوالي الربع ..

لقد قدمت تفسيرات عدة لهذا الغياب أهمها الوضع الأمني، لكن الواضح أن العراق قد استعد جيّدا على هذا المستوى، ولكن ما يزعج جلّ دول الخليج – باستثناء قطر– هو الحضور الايراني في العراق ونحن نعلم مدى حساسية المملكة السعودية خاصة من هذا الحضور وذلك رغم براغماتية رئيس الحكومة العراقي الحالي محمد شياع السوداني الذي يعد من أكثر القادة العراقيين رغبة في تقوية العلاقات مع الدول العربية وإيجاد توازن أكبر في السياسة الخارجية لبلاد الرافدين.

كما أن الخلاف الكويتي العراقي قد طفا على السطح من جديد بخصوص اتفاقية رسم الحدود البحرية بينهما المبرمة سنة 2012 والتي صادق عليها برلمانا البلدين سنة 2013. لكن العراق تريد الطعن في هذه الاتفاقية باعتبار أنها تضيّق عليها منفذها الوحيد على البحر ويعتبر المتابعون بدقة للعلاقة بين البلدين بأنّ هذا الخلاف قد يكون من بين عناصر الضعف النسبي لتمثيل الدول العربية بفعل الضغوط الخليجية خاصة منها السعودية والكويتية.

أما الأمر الذي لم يتوقعه أحد فهو غياب العاهل الأردني عن القمة خاصة وأن التنسيق كان حثيثا بين العراق والأردن ومصر لعقد قمة ثلاثية على هامش القمة العربية وأن موقف الأردن، منذ عقود، كان داعما دوما للعراق حتى في أحلك الظروف التي مرّت بالمنطقة. ولكن نلحظ وجود جهود قوية أردنية وعراقية للتقليل من أهمية هذا الغياب واعتبار أن العلاقات الثنائية الممتازة أقوى من بعض عثرات الطريق.

لقد أرادت القيادة العراقية التي راهنت كثيرا على انجاح هذه القمة أن تبين أن البلاد قد تعافت من مخلفات الغزو الامريكي ومن ارهاب داعش الذي تمكن من السيطرة على مناطق هامة وخاصة مدينة الموصل المدينة الثانية في العراق والتي تعد حوالي مليون ساكن سنة 2014 وتطلب اخراجها من «عاصمة الخلافة» حوالي ثلاث سنوات. كما أرادت القيادة العراقية أن ترى كل الدول العربية جهود الإعمار الضخمة التي شهدتها العاصمة بغداد في السنوات الأخيرة من جسور وطرقات ومنشآت وفنادق وأحياء سكانية، ذلك أن الأشغال في كل مكان وهي تتقدم بسرعة فائقة حسب المسؤولين العراقيين. أما الهدف الأهم فهو تقديم البلاد كصديق للجميع ، بلد يبحث عن شراكات مفيدة مع كل دول المنطقة اي مع دول الخليج ومع ايران ومع تركيا وأنه بلد غير مرتهن لأجندات خارجية وخاصة الايرانية منها ، بلد يمثل ،كما كان في السابق ، أحد القلوب النابضة للعالم العربي ..

وكانت الخطة العراقية تهدف الى جلب قوي للاستثمارات العربية – اي الخليجية– وبناء حلف ثلاثي مع مصر والأردن يسمح لأحفاد هارون الرشيد بأن يكون لهم وزن هام في المعادلات الاقليمية المتحولة باستمرار في المنطقة..

كل هذا والعراق مقبل على انتخابات تشريعية في نوفمبر القادم قد تكون مصيرية. فإما أن ينتصر دعاة الخط الوطني العراقي او تفوز الجماعات التي تنادي علنا او سرا بالتحالف الاستراتيجي مع ايران في مواجهةامريكا وحلفائها في المنطقة أي دول الخليج ..

لم تكن هذه القمة قمة عادية في هذه الدورة الرابعة والثلاثين ولا يمكن الجزم من الآن بنجاح او فشل القيادة العراقية الحالية في احداث هذا التوازن الديبلوماسي المنشود خاصة وأن صراعات الماضي والحاضر قد تحدد بشكل لا مستقبل العراق فقط بل مستقبل المنطقة برمتها ..

(يتبع)

II-جراحات الماضي وتحولات الحاضر

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115