على الغالبية الساحقة من دول المعمورة بترفيعه المشط في المعاليم الجمركية بما يتناقض مع الأسس التي قامت عليها الموجة المعاصرة للعولمة منذ انهيار المعسكر الشرقي، وهي ما اسماه بعضهم بـ «العولمة السعيدة» اي ان التنافس الأساسي بين الدول سيكون في التجارة لا في الصراعات العسكرية.
تقوم «العولمة السعيدة» على طوبا «نهاية التاريخ» لوفوكوياما، اي ان الحرب الباردة بين معسكرين متناقضين ستزول ويحل محلها نموذج واحد لكامل البشرية الديمقراطية الليبرالية: والتي تقوم أساسا على ما يمكن أن نسميه بالحريات الأربع.
- حرية تنقل رؤوس الأموال
- حرية تنقل السلع والخدمات
- حرية تنقل الأفكار
- حرية تنقل البشر
في الحقيقة هذه الحريات الأربع لم تنجز سوى حرية تنقل رؤوس الأموال والسلع والخدمات وبدرجة اقل حرية تنقل الأفكار لأنها بقيت خاضعة لموازين القوى الرمزية، أما حرية تنقل البشر فبقيت حبرا على ورق للغالبية الساحقة وشيدت الجدران العازلة المادية والإدارية في كل دول الشمال كذلك في جزء هام من دول الجنوب.
والعولمة السعيدة اقترنت أساسا بعولمة التجارة بالحد من القيود عليها وذلك بالتخفيض المستمر للمعاليم الجمركية وإزالة كل العراقيل التقنية لانسيابية السلع في كل اصقاع المعمورة.
هكذا يكون الترفيع المشط في المعالم الجمركية التي أعلنها ترامب من جانب واحد وردود بعض الدول عليها بترفيع مماثل من شانه - لو تاكد الأمر - أن يضع حدا هاما لتنقل السلع من بلد إلى آخر وأن يهدم بالتالي العمود الفقري لهذه «العولمة السعيدة» دون أن يعني ذلك نهاية العولمة والعودة إلى الاقتصاديات المحلية. فالعولمة مسار انطلق عند بعض الباحثين منذ حوالي الف سنة وشهد منعرجات عدة وتطورا هائلا مع الثورة الصناعية، لكن موجة العولمة الأخيرة لا نظير لها البتة في تاريخ البشرية.
لماذا تريد الدولة التي بشرت بهذه «العولمة السعيدة» ان تضع حدا لها؟
الجواب واضح : على عكس المرجو، لم تكن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية هي المستفيدة الابرز من العولمة بل الدول الصاعدة فيما يسمى بالجنوب الكلي وعلى رأسها الصين والهند وجل الدول الآسيوية وبعض الدول في أمريكا اللاتينية و افريقيا..
لقد آلت العولمة التجارية إلى تحول يتفاقم سنة بعد اخرى في موازين القوى وفي انزياح مركز العالم من المحيط الأطلسي (الولايات المتحدة وأوروبا) إلى المحيط الهادي (آسيا والولايات المتحدة) واذا تواصل هذا المسار سيؤدي بعد عقود إلى انقلاب جذري في موازين القوى هذه بما ينبئ بأن القرن القادم لن يكون غربيا بكل المقاييس
قرار ترامب ليس جنونا فرديا - وإن بدا ذلك في ظاهره - لكنه قد يكون المحاولة الأمريكية الأخيرة لاعاقة هذا التحول المخيف للغرب في موازين القوى الدولية.
في ذات الوقت لو تراجعت التجارة العالمية بحدة فذلك لن يؤذي الدول القوية في الجنوب الكلي فقط، بل كذلك الولايات المتحدة وخاصة حلفاءها في أوروبا والكندا واليابان وكوريا الجنوبية.
اذا لم يتراجع ترامب عن هذا الترفيع المشط في المعاليم الجمركية وتمت مجابهة هذا القرار بترفيع مشط من الدول القوية، سيتراجع النمو العالمي حتما ومعه ستزداد حالات الفقر والتهميش اتساعا وستحتد العلاقات بين الدول الكبرى اكثر فأكثر وهذا مناخ مناسب لنشوب حروب إقليمية خطيرة..
عادة ما يقال أن قرارا ما سيغير وجه العالم، وعادة ما يكون هذا القول في غير محله، أما اليوم فنحن أمام إمكانية فعلية لتحول نوعي في العلاقات بين الأمم، تحول سيزيد من خطورة العالم وانقساماته، وستجد الدول الصغيرة الضعيفة نفسها في دوامة جديدة بين السعي للتأقلم مع هذه التحديات الخارجية والاستجابة للمطالب الدنيا لشعوبها..
عالم مجنون فعلا لكنه كذلك بتخطيط محكم.