ابرز عناصره منع مناولة اليد العاملة وإلغاء عقود الشغل محددة الأجل في مسعى من السلطة إلى إعادة هيكلة سوق العمل وتعزيز حقوق العمال، عبر تقليص الأشكال الهشة للتشغيل وتوفير مزيد من الاستقرار الوظيفي.
لكن هذه المقترحات التي تراهن السلطة على ان تحقق بها وعدها بالقضاء على اشكال العمل الهشة وعلى الاستغلال سواء في القطاع الخاص او العام قد تكون محدودة الاثر والتاثير في في ظل مناخ اقتصادي متقلب يواجه تحديات متزايدة، قد تفرغ هذه التعديلات القانونية من مضومونها الاقتصادي.
فالسلطة تراهن عبر تحسين مناخ العمل وتوفير الامن الوظيفي على ان تساهم في تحسين حياة التونسيين ولكن تحقيق هذا الهدف لا يمكن فقط بتعديل قانوني رغم اهميته ونوياه الطيبة لم يكن محل نقاش واسع للوقوف على انعكاساته المباشرة والغير المبارة على سوق الشغل وعلى الاقتصاد وحياة التونسيين.
فاليوم وبعد اعلان السلطة التنفيذية عن مبادرتها التشريعية بتنقيح بعض احكام مجلة الشغل، تعالت الاصوات التي تتحدث عن انعكاسات محتملة على التشغيل، ومدى تأثيره على المؤسسات، خاصة الصغرى والمتوسطة.
فالمشروع الذي يرتكز في فصوله عشر فصول على اعادة ضبط العلاقة بين العمال ومؤسساتهم، خاصة عبر تجريم المناولة باستثناء بعض الأنشطة المتخصصة التي لا ترتبط بالنشاط الأساسي للمؤسسة، وفرض المسؤولية القانونية على المؤسسات المستفيدة تُلزمها بالتصريح بالعمال وضمان حقوقهم الاجتماعية، مع فرض غرامات مالية تصل إلى عشرة آلاف دينار على الشركات المخالفة. أما بخصوص عقود الشغل المؤقتة، فقد تم تحديد فترة «التجربة» بستة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، مع فرض إشعار كتابي قبل إنهاء العقد، مما يحدّ من المرونة التشغيلية للقطاعات التي تعتمد على عقود محددة الأجل مثل السياحة، البناء والخدمات. ومن هنا، يطرح التساؤل: هل يكفي التشديد القانوني لضمان استقرار العمالة، أم أن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى نتائج عكسية؟
تشير إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء إلى أن نسبة البطالة في تونس بلغت 16% خلال الربع الثلاث من سنة 2024 مع ارتفاع حاد في صفوف الشباب الذين تتجاوز نسبة البطالة بينهم 40%. كما تعاني سوق الشغل من ارتفاع نسبة العمل غير المهيكل الذي يقدر بأكثر من 44% من إجمالي العمالة، وهو ما يعكس حجم الهشاشة التي تطبع قطاع التشغيل في تونس
. في هذا السياق، يمكن للتشديد القانوني أن يدفع بعض المؤسسات إلى اللجوء أكثر إلى التشغيل غير الرسمي بدلاً من الامتثال للإجراءات الجديدة، مما قد يؤدي إلى نتائج عكسية على مستوى توفير الحماية الاجتماعية للعاملين، اضافة الى تأثيراتها على القدرة التشغيلية للمؤسسات.
فتشديد القوانين دون توفير بيئة اقتصادية داعمة قد يؤدي إلى عزوف المؤسسات عن الانتداب، خاصة في القطاعات التي تتطلب مرونة في التشغيل. علاوة على ذلك، فإن فرض قيود على عقود الشغل قد يدفع بعض الشركات إلى اللجوء إلى تشغيل غير نظامي مما يزيد من تفشي العمل غير المصرّح به بدلًا من الحدّ منه.
خاصة وان المؤسسات الصغرى والمتوسطة، التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد التونسي حيث تمثل 90% من النسيج الاقتصادي، ستكون الأكثر تأثرًا بهذه التعديلات مما قد يقودها الى اشكال اخرى من التوظيف لعدم قدرة بعضها على على تحمل الاعباء الادارية والمالية الاضافية لبعض الوظائف غير الرئيسية ، على عكس الشركات الكبرى التي بمقدورها ان تتكيف مع الاجراءات التنظيمية الجديدة.
هذه المخاوف لا تعني باي شكل من الاشكال التقليل من اهمية القانون او من هدفه في حماية حقوق العمال فهذا أمر ضروري، لكن الاعتماد على القوانين وحدها ليس كافيًا لمعالجة إشكاليات سوق الشغل التونسية التي تحتاج الى معالجة المشاكل الهيكلية التي تواجه الاقتصاد، مثل غياب سياسات صناعية واضحة، تراجع الاستثمارات، وارتفاع كلفة الإنتاج.
هذه المخاوف هي تعبير عن هواجس جدية بشان تاثير المقاربة القانونية البحتة في تناول ومعاجلة ملفات اقتصادية واجتماعية تبين البيانات والمعطيات الرسمية مدى تعقد المشهد وتشابك عناصره، مما يجعل التناول القانوني غير كاف على اهميته في تجاوز الازمات وخلق مناخ صحي للتوظيف والاستثمار.
إن أي إصلاح لسوق الشغل يجب أن يكون جزءًا من رؤية متكاملة، كان يكون النص القانوني مرفوقا باجراءات تحفيزية تدعم المؤسسات التي توفر وظائف دائمة، مثل تقديم امتيازات ضريبية أو برامج دعم مالي للمؤسسات الصغرى.
هذا دون ان نغفل عن أن خلق بيئة اقتصادية مشجعة للاستثمار وتعزيز نمو القطاعات الإنتاجية هو الحل الأمثل لضمان تشغيل مستدام يحفظ حقوق الاجراء دون أن يعطّل ديناميكية السوق.
ان مشروع القانون خطوة إيجابية نحو حماية العمال، لكن لتحقيق هدفه كان من الاجدى ان يفتح نقاش عام واسع يرسم طريق لتجاوز التحديات التي قد تبرزعند تطبيق القانون تنطلق اولا من التأثير المحتمل على سوق الشغل وكيفية تقليص حدته.
فالتحدي الأكبر امام هذه المشروع هو كيف سيحقق التوازن بين ضمان حقوق العمال وضمان قدرة المؤسسات على التكيف مع المتطلبات السوق. إذ لا يمكن لأي إصلاح أن ينجح بمعزل عن سياسات اقتصادية واجتماعية داعمة، توفر حلولًا مستدامة تعزز من استقرار العمالة دون أن تعرقل تطور السوق.