تعثر في كل الانتقالات السياسية: الحلم الجماعي سبيلنا للمستقبل

رافقت كل تحول سياسي شهدته تونس في تاريخها المعاصر حاجة ملحة لأن تتقدم السلطات الجديدة بحلم جماعي مشترك

يقوم على تصوراتها ومشروعها السياسي ويستند إلى السياسات التي يمكنها أن تغذي الحلم المشترك لمختلف التونسيين. بروز الحاجة لا يعني قدرة النخب السياسية، وخاصة التي تمسك بمقاليد الحكم، على أن تلبيها أو تشبعها، فكانت العثرات هي السمة المشتركة بين كل النظم السياسية التي أفرزتها التحولات في البلاد.

مردّ هذه العثرات أن مختلف أنظمة الحكم لم تعر أي انتباه لأهمية الحلم المشترك واعتبرته ترفًا فكريًا، أو أنها جعلت من مشاريعها الخاصة والفئوية بمثابة “مشروع وطني” لم يكن قادرًا على أن يمنح الأمل للتونسيين أو أن يسوق لحلم يمكنه أن يحفّز الأفراد والمجموعات على الابتكار والتطور.

حلم لم تستطع نخب الحكم بعد الثورة أن تصوغه لتسويقه للتونسيين، واقتصرت على مقولات جاهزة لا يمكنها أن تولد حراكًا مجتمعيًا، فانتهت الثورة إلى أن لفظها عموم التونسيين الذين انقلبوا على أعقابهم وباتوا يبحثون عن إجابات لأزماتهم الاقتصادية والاجتماعية في الماضي القريب الذي يتجسد في المخيال الجماعي في وجود رئيس قوي يمتلك كل الصلاحيات وكل السلطة.

هذا المخيال الجمعي الذي يراهن على الفرد/الزعيم، وجد في الرئيس قيس سعيد ضالته، خاصة بعد إعلان الأخير عن إطلاق مسار 25 جويلية وحله للبرلمان وتفكيك كل منظومة الحكم التي أفرزها دستور 2014 والذهاب إلى تأسيس نظام سياسي يمتلك فيه رئيس الدولة صلاحيات واسعة.

هذا النظام السياسي الذي تم تركيز جل مؤسساته، باستثناء المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء، يواجه اليوم ما واجهه خصومه السابقون وهي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت وباتت تمثل تحديًا جديًا للسلطة التي تراهن اليوم على خطابها السياسي القائم على مقولات كبرى كحرب التحرير ومقاومة الفساد وصياغة رؤية جديدة ووضع مفاهيم ومقاربات غير تقليدية في قدرتها على أن تمنحها الوقت قبل أن يتوتر المشهد الاجتماعي.

توتر تسعى السلطة إلى تجنبه بترويج سياسة عنوانها الأبرز «استعادة ثقة الشعب في مؤسسات الدولة» وأن تنبع السياسات العمومية من احتياجات المواطنين الحقيقية، وعناوين أخرى تلتقي في أنها تعكس سعي السلطة إلى تهدئة الشارع عبر التسويق لحرصها على أن تحقق منجزًا رغم كل العقبات التي تتمثل في التآمر الداخلي والخارجي وفي الأزمات الاقتصادية الناجمة عن الفساد وسوء التصرف.

هذا الخطاب الذي يحمل تبريرات السلطة لتعثر المنجز الاقتصادي يبدو أنه حال بين السلطة وبين الانتباه إلى أهمية «الحلم المشترك» الذي يمكنها أن تصوغه وتسوقه للتونسيين لتحفيزهم على العمل من أجل تجاوز الأزمات الاقتصادية والمالية الهيكلية التي تواجهها البلاد.

بذلك اهدرت على نفسها وعلى التونسيين فرصة جديدة لبناء «الحلم المشترك» أو الحلم الجماعي، الذي يراه البعض مجرد حيلة دعائية سياسية ليبرالية، ويغفل عن أنه حاجة إنسانية تتمثل في أننا كأفراد ومجموعات في أمس الحاجة للأمل لتحفيزنا من أجل العمل وبذل الجهد، كما أن الأمل والحلم حينما يكونان مشاعًين بين الأفراد بمختلف مشاربهم ومواقعهم يلعبان دور الجامع أو المشترك الذي يعزز الوحدة الوطنية.

وجود هذا الحلم يساعد في أن يوحد الشعب بمختلف فئاته حول هدف مشترك، مما يقلل من التوترات الاجتماعية، إذ أن هذا الحلم هو عقدنا الاجتماعي الرمزي الذي يُلزم الجميع طوعًا بالعمل نحو مستقبل أفضل.

هذا المستقبل الذي نرنو إليه يمثل الحلم والهدف المشترك لنا كتونسيين، حفزًا للعمل والإنتاج والإبداع والنضال من أجل أن تحقيقه وتجاوز الأزمات، وأن تصبح كل خطوة نقطعها إنجازا ملموسا في طريق تحقيق هذا الحلم الذي ليس مجرد تصور ذهني فقط بل هو أداة سياسية للتغيير والتنمية وهو أداة لبناء العلاقة بين الحاكم والمحكوم لتكون السلطة ممثلة لتطلعات الشعب ومعبرة عن مصالحه، قادرة على أن تقنعه برؤيتها للمستقبل بأن لا يشكك في قيادتها ولا في شرعيتها.

اليوم نحن في تونس في أمسّ الحاجة لحلم جماعي يبعث فينا الأمل الذي يبين لنا التاريخ أنه أنقذ مجتمعات من السقوط في اليأس أو الفوضى، وأنه خفف من الإحباط وحفز الأفراد على مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية كلما كان لهم أمل في أن جهدهم وتعبهم سيؤتي أكله وأن لهم نصيبًا من ذلك طالما أن الحلم الجماعي الذي تعلقوا به مرتبط برؤية تنموية طويلة المدى تهدف إلى تحقيق تنمية مستدامة ومندمجة تشمل جل المجالات من التعليم، الصحة، الاقتصاد، والبنية التحتية، لكنه بالأساس يحيي الطموح الشخصي والجماعي ويقدم نموذجًا إيجابيًا للمستقبل يمكن أن يتطلع إليه الجميع.

الحلم لا يمكن أن يتقاسمه التونسيون في ظل غياب رؤية استراتيجية تستند إلى مشاركة حقيقية من كل الفئات الاجتماعية والسياسية، إذ لا يمكن أن يُبنى الحلم الوطني إلا عبر إشراك الجميع في صياغة مشروع مجتمعي يُعبر عن الهوية التونسية بكل تنوعاتها ويضع أهدافًا واقعية وطموحة تعيد إحياء الأمل.

نحن اليوم بحاجة إلى سلطة تُدرك أن تقديم الحلم ليس ترفًا، بل هو ضرورة فلسفية وسياسية وبدون رؤية واضحة وحلم جامع، سنظل قابعين بين الأزمات

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115