كذلك مجلسي نواب الشعب والأقاليم والجهات، ركز في خطابه على أن الأولوية المطلقة لمؤسسات الحكم في البلاد هي القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
خطاب تكرر كثيرًا في الآونة الأخيرة وأعاد توجيه النقاش بعد الانتخابات الرئاسية إلى كيفية معالجة السلطات التونسية للأزمات الهيكلية المتراكمة، خاصة في علاقة بالاقتصاد وبالمالية العمومية وكيفية تحقيق العدالة الاجتماعية التي باتت محور خطابها الرسمي بما يتضمنه من التزام السلطة باسم الدولة التونسية بتحسين الأوضاع المعيشية للتونسيين ودعم الفئات الهشة.
التزام عبرت عنه السلطات التونسية، التنفيذية والتشريعية، بتبنيها وترويجها لفكرة الدولة الاجتماعية باعتبار أن هذه الأخيرة هي الضامن الأساسي للكرامة الإنسانية والتكافل بين مختلف شرائح المجتمع على أسس العدل والإنصاف.
وتم التأكيد على أن «الدولة لا تتخلى عن مواطنيها»، للإشارة إلى التزامها بتوفير الحماية الاجتماعية وتحسين الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والسكن. هذه الرسائل التي وجهتها السلطة للتونسيين تروج لفكرة الدولة الاجتماعية كإطار شامل يضمن تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، خاصة من خلال إصلاحات تندرج ضمن إطار «حرب التحرير»، التي يسوق لها على أنها الإطار العام لرؤية سياسية أوسع. اذا نُزِّلت على أرض الواقع، ستحقق الرخاء والعدل والإنصاف لكل التونسيين.
خطاب رفع سقف التوقعات في الشارع التونسي، الذي انتظر إلى حين بداية جلسات نقاش قانون المالية ليبحث عن التزامات السلطة وكيفية تحقيقها، لكنه وجد في هذا القانون، الذي تمت المصادقة عليه ونُشره وبات اليوم حيز النفاذ، إجراءات وقرارات تختلف عما انتظره.
في مسعى للسلطة لإبراز صدق نواياها لتحسين أوضاع التونسيين، أقرت حزمة من الإجراءات التي يمكن القول إنها تدعم شبكة الأمان الاجتماعي لفئات محدودة من التونسيين أو تراجع جدول الضريبة لتوفير زيادات مقنعة في الأجور، عل ذلك يُحسن القدرة الشرائية للتونسيين، وغيرها من الإجراءات التي اتسمت بمحدودية المخصصات المالية لها وبضعف أثرها المرتقب على المشهدين الاقتصادي أو الاجتماعي.
ورغم هذا التركيز المعلن من قبل السلطة التونسية على أن أولويتها هي الأولويات الاقتصادية والاجتماعية، فإن السياسات المنتهجة، ورغم ما تضمنته من تحسين حتى وإن كان طفيفًا، تبين أننا أمام نوايا وتعهدات اقتصادية واجتماعية لم تجد طريقها للتنفيذ، لاكراهات لم تعلنها السلطة في خطابها الرسمي الذي تُسوق فيه لفكرة أنها الطرف الأقدر على تجسيد الدولة الاجتماعية وأن البلاد، تحت قيادتها، ستجد طريقها إلى معالجة أزماتها الهيكلية.
ما حققه الخطاب فعليًا هو تأجيل الاحتقان الاجتماعي من خلال تقديم السلطة كحامية للفئات المهمشة. لكنه اليوم، وتحت وقع توتر المناخ الاجتماعي وبداية تشكل موجة احتجاجية مهنية يصبح معها صمود الخطاب رهينً مدى قدرة السلطة على تحويل الأقوال إلى أفعال وسياسات عمومية تنتقل بالدولة الاجتماعية من إطارها النظري الافتراضي إلى حيز الواقع.
هذه الخطوة قد تتأخر السلطة في قطعها، فقد أصدرت قانون ماليتها لسنة 2025 الذي لم يعكس تعهداتها والتزاماتها بالدور الاجتماعي للدولة. فهي، وعبر قانون ماليتها، كشفت عن استمرار نهجها في التقشف، وهو أمر طبيعي في ظل التوازنات المالية الصعبة التي تحول دون إنفاق عمومي ضخم على الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم والنقل وتطوير البنية التحتية.
ضعف ومحدودية نفقات الدولة تتجلى في المخصصات (المبالغ المتعهد بإنفاقها) على الخدمات الاجتماعية وعلى الاستثمار في البنية التحتية لهذه الخدمات، والتي تمثل جزءًا قليلاً من نفقات الاستثمار التي أدرجتها الحكومة في قانون ماليتها والمقدر بـ5.7 مليار دينار، وُزعت على عدة أبواب منها الأمني والعسكري والاقتصادي والاجتماعي... إلخ.
ضعف النفقات يبين أن الحكومة، بما انها لم تخصص اعتمادات مالية، لم تضع مخططات تتضمن إصلاح منظومات خدماتها الاجتماعية وبنيتها التحتية. أي أننا لن نشهد مشاريع ضخمة في قطاع الصحة، اما ببناء مستشفيات أو بتطوير المشافي الموجودة وتجهيزها وتقريب الخدمات الصحية من المواطنين وكسر عزلة عدة جهات تونسية تعاني من نقص الخدمات الصحية، إما لغياب البنية التحتية أو لنقص الإطار الطبي وشبه الطبي.
هذا بعض من عدة أمثلة تبين انعكاس ضعف الإنفاق العمومي على الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، والتي لا تقتصر على نفقات الدعم المالي المباشر أو البرامج المخصصة لفئات بعينها، بل على خدماتها الاجتماعية الموجهة لكل التونسيين، كالتعليم والصحة والنقل والسكن والبنية التحتية... إلخ.
ضعف الإنفاق الاجتماعي في ميزانية 2025 يبين أننا أمام نوايا طيبة ولسنا أمام سياسات عمومية ومخططات لتحقيق هذا الالتزام القائم على أن أولوية السلطة هي الملف الاقتصادي والاجتماعي. فالبلاد تواجه أزمة مالية هيكلية تبرز في محدودية مواردها المالية التي لا تمكنها من دعم وتمويل مشاريع وسياسات تعكس الأولوية الاجتماعية والاقتصادية وذلك ما يجعل الاجدى والأسلم أن تعيد الحكومة ترتيب أولوياتها لتكون دامجة بين البعد الاقتصادي والاجتماعي معًا. أي أن توجه إنفاقها العمومي بدقة لتحقيق هدف مزدوجً، وهو تحفيز الدورة الاقتصادية وتوفير خدمات اجتماعية في نفس الوقت، أي أن تكون نفقاتها المخصصة لتحقيق أولويتها الاجتماعية موجهة إلى القطاعات والمجالات التي يمكن أن تولد ديناميكية اقتصادية، ولو على المدى المتوسط، كإصلاح التعليم بشكل شامل، لا الاقتصار على المناهج، بل على البنية التحتية، وعلى تكوين الإطار التربوي ومراجعة سلم التأجير لتحفيز أفضل الخبرات التونسية لجعلها تتوجه إلى قطاع التعليم.
مراهنة يمكنها أن تطور التعليم التونسي وتجعله في مكانة متقدمة دوليًا. وهذا سيكون عنصر جذب للاستثمارات الخارجية والداخلية ستسعى الى الاستفادة من خريجي هذه المنظومة التعليمية في تشغيلهم، باعتبار أن المنافسة اليوم، إقليميًا أو دوليًا، لا تعتمد على الحوافز المالية أو الجبائية أو ضعف تكلفة اليد العاملة، بل إلى حجم سوق الشغل وما يتضمنه من كوادر ويد عاملة ماهرة وطاقات إبداعية