عالم خطر يزداد خطرا: مخاطر الانغلاق الحضاري

قلنا في الحلقة الماضية ان التاريخ شبه المجمع عليه لانطلاق المرحلة المعاصرة من العولمة

هو انهيار الاتحاد السوفياتي ورمزه الاقوى سقوط جدار برلين ولكن العولمة بما هي وعي، نسبي دوما، بوحدة العالم تجد عناصرها الأساسية لا فقط في الجغراسياسة لكن أيضا في التقدم العلمي والتقني فالقول بأن العالم قد أصبح شبيها بقرية (القرية العالم او القرية العالمية) يعود إلى ستينات القرن الماضي. وقد نظر لهذا المفهوم المفكر الكندي مارشال ماك لوهان (Marshall Mcluhan) أحد ابرز منظري علوم الاتصال وقد وصل لمفهوم القرية العالم او القرية الكلية (Global village) من خلال دراسته لتطور الوسائط من الطباعة إلى الصحافة الورقية إلى الإذاعة والتلفاز بما يجعل من تلك الفترة (اليوم الأمر أوسع واشمل بكثير) العالم كقرية تصل اهم الاخبار فيه بصفة شبه آنية لسكان القرية /العالم. يضاف إلى ذلك التطور المذهل لوسائل النقل بما يجعل أقصى نقطة لكل بشر على بعد ساعات قليلة كما اننا نشاهد اليوم حرب الابادة على غزة ومحاولة اغتيال دونالد ترامب واستقبال كيليان مبابي في ملعب مدريد مباشرة على مختلف الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي.

يمكن ان نقول إن كل شروط تصور العالم كعالم او كوحدة ديناميكية متوفرة ولا تحتاج إلى كبير عناء لاقناع اي بشر بها..

لكن هل ساهم التغلب المذهل على المسافات المكانية والزمنية في تضارب الشعوب والثقافات؟

هنالك نظريتان امريكيتان تنازعتا في نهاية القرن الماضي تفسير وتوقع مآلات العولمة العصرية، نظرية «نهاية التاريخ والانسان الاخير» لفرانسيس فوكوياما ونظرية «صراع الحضارات» لصموئيل هنتغتون.

تقول النظرية الأولى ان انهيار الاتحاد السوفياتي سينهي انقسام العالم ويكرس الديمقراطية الليبرالية كافق وحيد لكل الأمم والشعوب، وعليه سيتعاون الجميع من أجل رفاه الجنس البشري.

لقد صدر كتاب فوكاياما سنة 1992 أي مباشرة بعد انهيار جدار برلين وكان الهدف منه إعطاء إطار تفسيري للعلاقات الدولية خلال العقود التي ستلي مرحلة الحرب الباردة.

في سنة 1993 نشر هنتغتون مقالا بعنوان «صراع الحضارات» في مجلة الشؤون الخارجية طورها في ما بعد في كتاب يحمل نفس الاسم وصدر سنة 1996. يقوم الكتاب على نظرية انقسام العالم إلى حضارات كبيرة كالغربية والإسلامية والصينية والروسية والهندية والافريقية والامريكية اللاتينية وقد عرفت الحضارة باعتبارها التحديد لهوية الإنسان فهي فوق قبلية وعرقية ووطنية ولكنها دون مجرد الانتماء إلى الجنس البشري، ثم إن الصراع هو الذي يحكم علاقات هذه الحضارات ببعضها البعض من أجل الثروة والخيرات والهيمنة ومواقع النفوذ.

في العولمة السعيدة (فوكاياما) الديمقراطية الليبرالية (اي الغرب في نهاية الأمر) هي معيار كل شي اما في العولمة التراجيدية (هنتغتون) الغرب هو حضارة من بين الحضارات الكبرى في العالم وعلاقته بها هي حتما علاقات صدامية حتى ولو اتخذت اشكالا سلمية في ظاهرها. مع العلم ان فوكوياما نفسه قد تراجع عن نظرية «نهاية التاريخ منذ عقد من الزمن.

ويبقى السؤال :هل تحول العالم فعلا إلى قرية؟

اي هل ان تقليص المسافات قد تسمح بتقارب الثقافات والشعوب؟

الاشكال يكمن في نظرنا - في طريقة طرح السؤال.

الحديث عن تقارب الثقافات والشعوب قد يوحي بأننا امام ثقافات وشعوب تعيش حالة كبيرة من الوئام الداخلي، وأن المعضلة قائمة فقط في علاقاتها مع الثقافات والشعوب الأخرى والحال ان الوئام الداخلي داخل شعب او أمة او ثقافة هو وهم لا وجود له اذا ما استثنينا الجماعات البشرية المحدودة العدد إلى أقصى حد فالجماعة البشرية الكبيرة (بداية من عشرات الالاف من الانفار) تضعف فيها العلاقات الدموية التي تربط كل أفرادها وينقسم فيها العمل وتتنوع فيها المصالح وتبنى فيها علاقات هيمنية وجدلية معقدة ويكون فيها دوما رابحون وخاسرون ومندمجون ومهمشون، فلا وجود على الإطلاق لأمة ذات ثقافة متجانسة، والحديث عن شعب او أمة او حضارة لا ينبغي ان يحجب عنا التناقضات الداخلية رغم الإقرار بطبيعة الحال بعناصر موحدة وجامعة تميز بصفة إجمالية الشعوب والامم والحضارات عن بعضها البعض. وما يجعل من شعب او أمة او حضارة موحدة بشرية، رغم التناقضات الداخلية، هو وجود سرديات مشتركة وبقدر الاشتراك في هذه السردية ام عدمه يقوى الشعور بالانتماء او يضعف.

والواضح هنا انه لا توجد سردية واحدة موحدة للجنس البشري رغم توق العديدين اليها جلهم عن حسن نية وبعضهم (النخب المهيمنة خاصة في الدول الغربية وغدا في بقية الاقطاب الكبرى القادمة على عجل) يريد الايهام بسردية مشتركة قصد التبرير الايديولوجي للهيمنة والسعي المحموم لتوفير شروط استدامتها.

لاشك ان التطور العلمي والتقني الذي اسلفنا اليه يوفر فرصا كبيرة للتقارب والتعرف على افكار وقيم وتاريخ ولغات الشعوب والحضارات الأخرى، وان هنالك تثاقفا لا يمكن انكاره ولكن الانتصار على حواجز المسافة والزمن واللغة ارتد فاننا - في الأغلب الاعم - على حواجز الثقافة والحضارة والأفكار المسبقة التي يحملها كل شعب عن بقية الشعوب و ثقافات العالم.

هنالك جدلية قائمة تحمل في طياتها مخاطر عدة فبقدر ما يتداخل سكان الأرض عبر حركات الهجرة النظامية وغير النظامية وعبر عولمة الصورة والخبر، تقام داخل كل امم الأرض حواجز مادية (الجدار الفاصل للكيان الصهيوني وفي الولايات المتحدة مع المكسيك و«الجدار» الرخو للتاشيرة) واخرى ثقافية قصد الحفاظ على «النقاوة» الأصلية ومحاربة «الاستبدال الكبير» حتى أصبح المهاجر اليوم من أصول عربية او إسلامية او أفريقية يمثل في دول غربية عدة تهديدا للامن الثقافي لشعوب هذه البلدان والعبارة ليست من استنتاجنا بل هي ما تقوله قيادات سياسية كثيرة تعرف نفسها بأنها وسيطة وضد تطرفي اليمين واليسار. الانغلاق على الذات الذي أضحى مهيمنا اليوم في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب يتغدى من عناصر متعددة بعضها داخلي (النظرة العدائية والاقصائية للاخر) وبعضها ما يفرضه الاخر عليك : الانصهار او الرحيل وبعضها يعود إلى عقلنا الزواحفي (le cerveau reptilien) الذي لا يرى في الاخر المغاير سوء وحشا كاسرا او فريسة سهلة.

ولكننا هنا أيضا في قلب استراتيجيات الهيمنة العالمية والاقليمية والوطنية فكل ايديولوجات العداء للآخر تجد جمهورا واسعا لها على عكس افكار التقارب والتسامح والاحترام وهي بالتالي تسمح بتجنيد العدد الأكبر ضد «العدو» الخارجي /الداخلي الحقيقي او المتوهم وهي تسمح أيضا بصرف النظر عن الخروقات والاخفاقات والتسلطات الداخلية بل وتبريرها بمحاربة هذا «العدو».

في عالم تتفاقم فيه الصراعات على النفوذ الهيمنة تنزوي فيه حتما الثقافات والحضارات على ما تعتبره عمودها الفقري وتخلق بذلك الظروف المناسبة لنمو وَترعرع الايديولوجيات العدائية والتي تمثل الجانب «الفكري» لهذه الحروب الطاحنة باشكالها «السلمية» او «العنيفة..

اما الضحايا فهم دوما نفسهم :النساء والفقراء والمهمشون والمهاجرون (غرباء الأمس).

(يتبع)

IV - عندما يصبح الإنسان خطرا على الحياة

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115