تونس وتعثر الإقلاع الاقتصادي: حين يشغلنا المهم عن الأهم، تهدر الفرص

يتكرر الامر مع كل تقرير او دراسة تصدر عن جهة رسمية او غير رسمية، وطنية كانت ام اقليمية ام دولية،

في علاقة بالآفاق الاقتصادية لتونس او تقييم وضعها الراهن او تصنيفها وفق معايير تطبق لتقييم الآداء الاقتصادي، ويتجلى للناظر كذلك للمتمعن في حجم الفرص المهدورة ما يبعث عن السؤال: اين يكمن الخلل الذي حال دون ان تشهد تونس كغيرها من الدول في التجارب المقارنة «اقلاعها» وقد توفرت لها نظريا عدة شروط بعد الثورة.

طيلة السنوات الفارطة التي يمكن تقسيمها الى ثلاثة مراحل، ما قبل 2009 وما بين 2010 الى غاية 2015 ، واخيرا مرحلة ما بعد 2016 الى حد اليوم. شهدت البلاد تذبذبا في مؤشراتها الاقتصادية وفي ادائها الذي يظهر بشكل افضل في حزمة الارقام والاحصائيات التي من ضمنها مؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي او الدخل الفردي.

وفي الحالة التونسية شهدت البلاد في 2010 انتقالا في تصنيف البلاد من في خانة الشريحة الدنيا للبلدان متوسطة الدخل الى خانة الشريحة العليا للبلدان متوسطة الدخل.

واستطاعت البقاء في هذا التصنيف الى غاية 2015، قبل ان تتراجع الى تصنيف ما قبل 2010 لتقاطع عدة عوامل ساهمت طوال السنوات الخمس في تراجع الاداء الاقتصادي الكلي لتونس وتباطئ نمو الناتج المحلي الاجمالي الذي نتج عن دخول البلاد في حلقة مغلقة من النمو الهش الذي قدر متوسطه بـ 1,1 ٪ كمعدل نمو سنوي في العشرية الممتدة بين 2011 و2021، بعد ان كانت خلال العشرية السابقة لها تقدر بـ4.5 ٪ كمتوسط نسبة نمو سنوي مما ساهم في ارتقاء البلاد في التصنيف سنة 2010. بين 2000 و2010.

تذبذب كان يفترض ان يولد لدى الفاعلين السياسيين وخاصة لدى السلطة سؤالا عن الاسباب التي كانت وراء ذلك والبحث عن الاجابات الدقيقة والمعمقة التي تسعى الى تحديد مكامن الخلل لا تقديم اجابات جاهزة تؤدي بالجميع الى الوقوع في فخ تكرار الاخطاء ومراكمة اسباب الفشل التي تؤدي في النهاية الى وضع صعب لا يتمنى أي كان وقوعه.

الاسراع بتقديم اجابات جاهزة او عامة، كالقول بارتفاع كتلة الاجور او ارتفاع نفقات الدولة او انخرام التوازنات المالية العمومية للدولة التونسية فيه اشارة الى الاعراض لا الى مكامن العلة او الخلل، ذلك ان الاقتصاد التونسي خلال السنوات الممتدة من 1972 الى غاية اليوم، لم تكن ازمته في هذه النسب او المعدلات التي تعبر عن اداء الاقتصاد بل في الاداء الاقتصادي في حد ذاته الذي كان يفترض بعد كل مرحلة انتقالية ان لا يمتد طويلا، ولو اردنا الاختزال وتقديم صورة مبسطة في نقاط البداية ولكن بمصاعب اكثر.

فرص الاقلاع الاقتصادي وتحقيق نسب نمو هامة تراكمت لتقود البلاد في مرحلة انتقالية لتجعلها من مستوى الدول ذات الدخل الضعيف الى الدول المتوسطة الدخل ثم المرتفعة الدخل، كانت متوفرة للبلاد التونسية، خاصة اذا تعلق الامر بالمؤشرات الديمغرافية التي تعتبر من الركائز الاساسية للاقلاع الاقتصادي وارتقاء الدول والمجتمعات.

وقد عرفت تونس منذ سنة 2000 معدلات ونسب مشابهة لمثيلاتها من الدول التي شهدت اقلاعا اقتصاديا، سواء أتعلق الامر بعدد المتمدرسين أوبنسبة المتحصلين على مؤهلات جامعية من الجنسين من مجموع سكانها، كذلك تقارب النسب بين الجنسين، ومتوسط معدل الاعمار ونسب التحضر وغيرها من المؤشرات التي تتضمن منسوب العنف في المجتمع، هذه المؤشرات مجتمعة كانت تشير الى ان البلاد حققت ما يعتبره عدد من الديمغرافيين او الاقتصاديين من شروط الاقلاع الاقتصادي بتوفر عامل اساسي هو ان يكون شباب المجتمع ذا تحصيل علمي عال مع المساواة بين الجنسين مع حركة هجرة داخلية تسمح ببروز مدن كبرى.

هذه العناصر قد توفرت اضافة الى عناصر وعوامل اخرى كان من المفترض ان تقود البلاد الى مسار يحقق الرخاء والنمو الاقتصادي، لكن السياسات العمومية المعتمدة في ظل غياب الديمقراطية والحرية كذلك ضعف المشاركة في الشان العام، كبحت محركات النمو والاقلاع الاقتصادي ولم تسمح الا بتحقيق القليل الممكن.

ثم جاءت الثورة وراهن التونسيون على تحقيق ما وعدوا به من رخاء اقتصادي، وراهنوا على توفر شروطه بوجود الحريات العامة والفردية وتوفر عوامل موضوعية كانت ستساهم في الارتقاء الاقتصادي الذي وعدت به الطبقة السياسية حين طرحت مسألة المنوال الاقتصادي على النقاش العام بهدف معالجة الاخلالات لكن النقاش انحرف وتعثر وانغمس الجميع في تفاصيل سياسوية تتعلق بنظام الحكم وتوزيع السلطة وطبيعة المجتمع مع حضور محدود للنقاش الاقتصادي الذي يتعلق بأنماط الانتاج وادواته كذلك الاداء الاقتصادي والقيمة المضافة مقابل هيمنة مسألة اعادة توزيع الملكية والثروة.

نقاش غفل عن عنصر اساسي يتعلق بتوظيف الامكانيات المتوفرة للتونسيين ولتونس لبناء اقتصاد منتج ذي قيمة مضافة يراكم معدلات نمو تنعكس على مستوى حياة التونسيين اليومية. ونتيجة ذلك اننا نقف مع كل تقرير يصدر على حقيقة الفرص التي اهدرت على البلاد لتحقيق الرفاه والرخاء للتونسيين والذي كان ممكن التحقق لو رتبت الاولويات وجعل رفاه التونسيين مطلبا وهدافا بدل الاولوية السياسية التي كانت رغم اهميتها غير قادرة على تغيير واقع المجتمعات في غياب العامل الاقتصادي الذي يجب ان يقدم مسألة انتاج الثورة على توزيعها

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115