فالليبرالية واقتصاد السوق هما العدوان اللدودان – على مستوى الخطاب على الأقل – لجلّ النخب التونسية بل هما علامتان للشر المطلق ولاستغلال الانسان للإنسان وللهيمنة الرأسمالية الامبراطورية على العالم .
تعتقد جلّ النخب التونسية أن أزمتنا تكمن في الخيارات الليبرالية، واقتصاد السوق من بينها، التي هيمنت على البلاد منذ اكثر من نصف قرن مع المرحوم الهادي نويرة وانه لابدّ لنا من منوال تنموي جديد يقطع مع الليبرالية ويتأسس على الدور الاجتماعي للدولة كذلك على دورها التنموي والاقتصادي.
في الحقيقة نحن ازاء مفاهيم لا تتعارض بالضرورة، لكن المخيال الجماعي خاط حولها سرديات لا تمت الى الواقع التاريخي، دوما، بصلة .
عندما نجيل النظر اليوم في كل أرجاء العالم نجد أن الرأسمالية – بمفهومها العام – هي النظام المهيمن بصفة شبه اطلاقية من مواطن نشأته الاولى الى البلدان ذات الماضي الاشتراكي بل وحتى تلك التي تحكمها اليوم احزاب شيوعية ، الصين مثالا .
الفرق الوحيد بين روسيا والصين والهند والسويد والولايات المتحدة وإيران لا يكمن في جوهر النظام الاقتصادي القائم على أهمية القطاع الخاص بل في طبيعة تدخل الدولة فيه وفي نوعية العلاقات التي تربط بين أصحاب السلطة وأصحاب المال، خاصة في طبيعة الدولة،هل هي دولة قانون ام دولة تسلطية وهل أن النشاط خاضع لإرادة الدولة ومسخر - في مجمله- لاستفادة السلطة الحاكمة ام انه يتمتع بحد أدنى من الاستقلالية وأن مردوده العام يعود بالنفع – ولو بطريقة متفاوتة– على سائر افراد المجتمع ؟
لا نقصد هنا باقتصاد السوق الاقتصاد الذي لا حسيب ولا رقيب فيه على أصحاب الثروات تحت الشعار الشهير لآدم سميث «دعه يعمل، دعه يمرّ» ولو أننا لا نقدر حق قدرها الشحنة الثورية لهذا الشعار زمن اعتباطية الحكم الملكي حتى بعد تقييده النسبي في انقلترا ..
كما لا نقصد باقتصاد السوق قدرة السوق على تعديل ذاته بذاته دون تدخل الدولة كممثلة للصالح العام ..فاقتصاد السوق الذي نقصده هنا هو كذلك النشاط الاقتصادي الخاضع – كما الدولة – لدولة القانون والقائم على اتاحة الفرصة لكل راغب في ذلك للولوج الى السوق في كنف الشفافية والمنافسة الشريفة.
تعرّف الأشياء احيانا بضدّها فلننظر الى مآل دولة تستحوذ على جلّ وسائل الانتاج أو تتدخل في الاقتصاد بصفة اعتباطية .
تاريخيا لم تفض دولنة الاقتصاد (l’étatisation de l’économie) كما كان الحال في دول المعسكر الشرقي إلا الى الاستبداد فقط لا غير وذلك أيا كانت ايجابيات الادوار الاجتماعية التي تقوم بها مثل هذه الدولة .
الدولة التي تنتج وتتاجر وتوزع وتوفر الوظائف وتقوم بالتغطية الاجتماعية ،هذه الدولة لا ولن تسمح بأي صنف من أصناف المشاركة ، فما بالك بالديمقراطية حتى ولو كان قادتها من الملائكة الأخيار لأن موازين القوى مع المجتمع منخرمة بالكامل فلا توجد أحزاب معارضة ولا تنظيمات نقابية ومهنية وجمعياتية مستقلة ولا تسمح مطلقا بظهور دولة القانون لأن في مثل هذا النظام الدولة فوق القانون بل وفوق القانون الذي تضعه هي بنفسها ولا تعتبر نفسها ملزمة بأي شيء لا ينسجم مع ارادتها ..
ثم إن الدولة التي تؤمن فضاء كبيرا للمبادرة الخاصة ولكنها تعمد الى الاعتباط في تعاملها مع دوائر المال والأعمال في علاقة زبونية متشابكة المصالح انما تضرب في العمق الشروط الموضوعية لاقتصاد السوق المنظم .
عندما نتحدث عن اقتصاد السوق، نحن نتحدث عن كل الفاعلين فيه من البائع المتجول او الحرفي الصغير الى المجاميع الكبرى .. نتحدث عن اقتصاد تكون فيه المبادرة مسموحة للجميع بل ومشجع عليها لأنها هي التي تخلق القيمة المضافة للبلاد واستقلالية هؤلاء الناشطين عن الدولة .. هذه الاستقلالية ضرورية لخلق شرط من شروط امكان الفضاء السياسي لممارسة المواطنة بداية والديمقراطية ثانية.
تاريخيا عندما انتقلنا من الدولة الجابية ومن حاجيات البلاط ونفقات الجند والاستعداد للحروب الداخلية او الخارجية الى دولة العقد الاجتماعي المبني على احترام حق الملكية للأفراد مقابل دفع ضريبة قارة ومنظمة بدأنا ننتقل من الدولة / التنين الى البواكير الاولى لدولة الحق (او دولة القانون) القائمة على المواطن / دافع الضرائب.
دون قطاع خاص مستقل – اي لا يعيش بالأساس على فتات الدولة وشبكتها الزبونية لا امكان لفضاء عمومي تداولي مستقل ولا امكان للحد من تغول الدولة/ التنين على المجتمع..
الديمقراطية في النهاية ما هي إلا توازن دقيق للقوة بين الدولة ومختلف مكونات المجتمع ، توازن لا يسمح بتغول الدولة ولا بتغول المجتمع كذلك.
اقتصاد السوق الخاضع بإطلاق إلى دولة القانون لا يسمح بتكوين اوليغارشيا تتحكم في السوق وإلا لسقطنا في نوع آخر من الاعتباط التسلطي.. فالحرية (والحرية الاقتصادية من بينهما) والمساواة هما القوام الفلسفي للديمقراطية الليبرالية .
واقتصاد السوق لا يلغي الدور الاجتماعي للدولة او دورها المُخطط ايضا (L’Etat stratège) بل يمكن ان نقول: ان من شروط استدامة الديمقراطية الليبرالية في بلد كتونس، ان تقوم الدولة بدورها الاجتماعي خاصة في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وأن تكون قاطرة الاقتصاد والنمو لا بتدخلها في عملية الانتاج بل بالتخطيط لمهن المستقبل والارتفاع المستمر في سلم القيم. المطلوب هنا هو الحضور المستمر للنجاعة الاقتصادية وحلّ المشاكل الاجتماعية (ومن اهمها مشاكل الفقر والتهميش والنمو غير المتوازن) بخلق المزيد من الثروة ،لا بتوزيع ثروة لم تخلق بعد كما فعلنا ذلك في فترات عدة خلال كامل سنوات الثور
(يتبع)
V- فرد حرّ في شعب حرّ