لا بديل ديمقراطي عن الديمقراطية الليبرالية: I- مقدمات ضرورية

قد يبدو عنوان هذه السلسلة موغلا في الوثوقية الساذجة او انه ينهي النقاش قبل بدايته .

وقد كان يجدر بنا أن نعنون بـ«هل يوجد بديل ديمقراطي عن الديمقراطية الليبرالية ؟»

ولكن فضلنا لجدية النقاش الذي ندعو اليه ولوضوحه ايضا أن نبرهن عن وجهة نظرنا دون مواربة ودون الاختفاء وراء تساؤلات زائفة لا تضيف للنقاش شيئا .

ولكن هل يعني هذا انه لا توجد مشاكل عويصة بل واحراجات (apories) امام طريقة الطرح هذه ؟ قطعا لا ولعل اهمها ما يبدو من افتراض النتيجة في المقدمة اي طريقة التفكير التي تفسر الماء بالماء ( la tautologie) ولكن نؤكد لقرائنا الكرام أن التساؤل والشك فيما يبدو انه من المسلمات سيكون دوما منهجنا لاسيما وأن القضية تتعلق باختيار مصيري لا يبدو أن بلادنا قد حسمته بصفة نهائية .

لن نبدأ هذه السلسلة من المقالات بالتعريفات كتعريف الديمقراطية بداية والديمقراطية الليبرالية ثانيا لأننا نحتاج قبل المرور الى هذا المستوى من التفكير أن نزيح من الطريق اعتراضات عدة يثيرها العنوان الرئيسي لهذه السلسلة .

عندما ننفي وجود بديل ديمقراطي عن الديمقراطية الليبرالية فهل يعني هذا أن هذا النظام «الديمقراطية الليبرالية هو الافق الممكن الوحيد للديمقراطية» ؟

ثم كيف نؤكد مثل هذا القول والحال ان هنالك اجماعا على عمق الازمة التي تعيشها الديمقراطية الليبرالية في اكثر الدول عراقة في هذا النظام ؟

عندما نقول انه لا بديل ديمقراطي عن الديمقراطية الليبرالية، نحن في الحقيقة في مستوى تشخيص الظاهرة لا الحكم على معياريتها اذ نجد أن كل النظم السياسية التي خرجت عن اطار الديمقراطية الليبرالية قد أفضت دون استثناء الى نظم تسلطية حتى وإن أدعت ممارستها لصنف خاص من «الديمقراطية». وهذا التشخيص لا يدعي التنبؤ بمآلات العقود والقرون القادمة لذلك استعملنا النفي «لا» ولم نستعمل الجزم «لن» اذ لا شيء يمنع نظريا تصور ديمقراطية فعلية على غير النمط الليبرالي لكن شروط هذه الديمقراطية غير متوفرة اليوم لا بالفعل ولا بالقوة في كل النظم غير الليبرالية في العالم .

نريد أن نوضح هنا اننا نستعمل مفهوم الليبرالية في معناه الانغلوسكسوني الاصيل اي الليبرالية كنظام سياسي اقتصادي لا اقتصادي فقط كذلك بمعنى التلازم والتفاعل الدائم بين المستويين الاقتصادي والسياسي ، كما ننوه هنا أن الليبرالية الاجتماعية، كما هو الحال في الدول السكندينافية، هي الشكل الافضل والأكثر ديمقراطية في هذا النظام العام على عكس النيوليبرالية (او الليبرالية الجديدة ) والتي نجد فيها تقلصا هاما في الحريات الاجتماعية.

لاشك ان الديمقراطية الليبرالية مرت بأزمات عدة لكن الازمة لا تعني الانهيار او عدم القدرة على التجدد، والأزمة هي دوما فرصة لإعادة التأسيس وعندما نتحدث اليوم عن الديمقراطية الاجتماعية او الديمقراطية التشاركية ومختلف اشكال الديمقراطية المباشرة نحن دوما داخل اطار الديمقراطية الليبرالية لا خارجها.

هنالك اعتراض ثان جوهري له رواج كبير في أوساط عدة اليوم خاصة بعد حرب الابادة الصهيونية ضد غزة مفاده ان الديمقراطية الليبرالية انتاج غربي وان الانخراط فيها انما ينمّ عن تبعية فكرية ونفسية للقوى الاستعمارية.

لا ننكر ان لهذا الاعتراض بعض الوجاهة الظاهرية ولكنها وجاهة لا تصمد امام النقاش والتحليل.

لاشك ان الديمقراطية الليبرالية انتاج غربي وان ديمقراطيات غربية عديدة مارست –ومازالت تمارس– سياسات استعمارية وهيمنية على بقية شعوب المعمورة ، وان هذه الدول لم تتخلص الى حد الآن من عقدة التعالي والتمركز حول ذاتها، ولكن الدولة الحديثة اليست بدروها نتاجا للحضارة الغربية ؟ ونقصد بالدولة الحديثة تلك الدولة الوطنية الباسطة لنفوذها بالقوة الصلبة وبالقانون الموحد على كامل ترابها والقائمة على اصناف مختلفة من الفصل او التمييز بين السلط الثلاثة، الدولة التي تطبق سياسات عمومية في كل المجالات وتقوم بوظائف السيادة وبخدمات عمومية كالتعليم والصحة والنقل والبنية التحتية، وهي دولة تفترض ان العقد الاجتماعي قائم على اساس المواطنة وأن المواطنين والمواطنات سواسية في الحقوق والواجبات وان السلطة الفعلية نابعة من الشعب وان الجباية جزء أساسي من البناء الوطني .. هذه الدولة بهذه المواصفات جاءت بها الحضارة الغربية فهل نعتبرها اطارا مناسبا للعيش المشترك ام نلقيها في «مزبلة التاريخ» باعتبارها ارثا استعماريا ؟

ثم إذا نسينا فلا ننسى أن مختلف اصناف الاستبداد الحديثة هي كذلك من ثمار التجربة التاريخية الاوروبية من الدول الشمولية الى الشعبويات يمينا ويسارا. هكذا لا يكون الخروج عن الديمقراطية الليبرالية خروجا عن الهيمنة الغربية كما يخيل الى البعض بل هو في احيان كثيرة أسوأ الاشكال تبعية لها .

السؤال الاساسي هو : اي اشكال الحكم افضل للعيش المشترك ؟ وأي الاشكال أفضل لاحترام الكرامة الانسانية ؟ وهل أن النضال ضد الهيمنة الغربية يقتضي امتهان حرية الانسان ؟

(يتبع )

II – في شروط امكان دولة القانون

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115