سواء أكانوا كيانات سياسية وحقوقية ام افراد. وقد انصب اهتمامهم على الجانب الحدثي من الملف وتطوراته اليومية المتسارعة التي حجبت ماردا ينمو في الظلال مستفيدا من عدم تأصل مبادئ وقيم الديمقراطية في تونس وضعف استبطان التونسيين لثقافة الاختلاف وعدم تقبلهم للحريات الفردية.
اذا نظرنا الى الصورة باعتبارها طبقات متراكمة وسعينا الى ان ننظر الى ما بعد المستوى/الطبقة الاولى المتمثلة في المعالجة السياسية للملف وفي الخطاب الرسمي والقانوني ولكن ايضا تتمثل تفاعل التونسيين مع الحدث والخطاب الصادر عن جزء منهم بشانه.
عند هذه النقطة قد نجد ان خطاب الجمهور العام يقوم على نظرية المؤامرة التي تتغذى من تنامي المشاعر البدائية في صفوف هذا الجمهور الذي ترك وعيه بشأن ملف المهاجرين يتشكل عبر مشاعر الخوف والغضب والكراهية، وهذا ما يعكسه خطاب متشنج يحرض على المهاجرين ويقدم عنهم صورا نمطية بغاية تاصيل «خطرهم» على المجتمع التونسي والاشارة الى «مشروعهم المؤامراتي» وهو الاستيطان في تونس وتغيير التركيبة الديمغرافية.
هذا الوعي الجمعي المشترك (الواقع الذاتي الجماعي) الذي يبالغ في استعراض خطر المهاجرين غير النظامين ويسعى الى تأويل كل ما يصدر عنهم على انه «خطر» يهدد النموذج المجتمعي ونمط العيش التونسي لتبرير خطاب الكراهية والعنف في مرحلة اولى وتوفير غطاء للتطبيع مع أفعال غير قانونية او عنصرية ضد المهاجرين غير النظامين.
هنا يكفي الاطلاع على ما ينشر في منصات التواصل الاجتماعي للاطلاع على مضمون الخطاب العنيف وعلى بعض الممارسات التي يأتيها تونسييون وتستهدف افرادا او جماعات وفق لون بشرتهم، فقد وقعت تجاوزات ضد عدد من ذوي البشرة السوداء كالامتناع عن تقديم خدمات او عدم البيع لهم دون النظر اذا ما كان الشخص المتعرض لهذا الاقصاء والعنصرية مهاجرا نظاميا او تونسيا من ذوي البشرة السوداء الذين فقد وقع نقل بعضهم الى خارج مدنهم في سياق عمليات نقل المهاجرين غير النظامين.
هذه الاحداث والتطورات هي المستوى الاول الذي يغطي طبقات اسفله وقد لا يلفت انتباه الفاعلين السياسين في خضم الضجيج الراهن المتصل بملف المهاجرين والضغط المسلط على الدولة وعلى المجتمع، لكنه يلفت انتباه الباحثين وعدد من النشطاء الحقوقيين والسياسيين كذلك الى ضعف تاصل ثقافة الحقوق والحريات لدى شريحة واسعة من التونسيين.
هذه الشريحة التي لم تستبطن ثقافة الحقوق والحريات وعدم تبنى منظومة القيم الكونية على شموليتها اضافة الى ضعف تجذر هذه القيم في مؤسسات الدولة لاسباب عديدة موضوعية تتعلق بطريقة عمل السلطة ونهجها في الحكم واخرى ذاتية تتعلق بطبيعة الفرد التونسي وضعف تبنيه لقيم الديمقراطية الليبرالية وانسحاب جزء من النخبة من المشهد اذا اجتمعت قد تقدم لنا ما تخفيه بقية الطبقات.
طبقات تتشكل من خطاب الكراهية والعنف ومسايرة الدولة له اما لتجنب الصدام مع اصحابه او للاستفادة من المزاج العام لتنزيل سياسات محددة، وهذا يشكل ماردا يمكن ان نسميه «جهمور العامة» الذي يحذرنا التاريخ من انه قد ينفلت ليفرض ما يعتبره ارادته على الجميع، وهذا احتمال وارد وليس حتمية تاريخية لا مناص منها.
التاريخ الحديث يعلمنا ان جمهور العامة اذا هيمنت عليه مشاعره البدائية ينحرف الى فرض تصور مجتمعي يقوم على تصور متشنج لهويته ولخصائصه الثقافية والدميغرافية والدينية، ويصبح كل مختلف عن ذلك التصور النمطي غريبا مستهجنا ولاحقا خطر وجب القضاء عليه.
وهنا ان نظرنا الى الاحداث وسلوك الجمهور في المنصات الاجتماعية في الاسابيع الفارطة التي تزامنت مع عودة ملف المهاجرين الى الواجهة، سنجد مؤشرات عدة على بداية تنامي قوة جمهور العامة ومحاولته الدفاع عن هويته التي تشكلها صورة ذهنية نقية له. يمكن لكل مجموعة ان تتمثلها بشكل مختلف لكنها قد تلتقي عند اعتبار الحريات الفردية بما تتضمنه من حرية ضمير ومعتقد وحرية تفكير وحريات جنسية ومساواة تهديدا لهذا التمثل يجب التصدي له.
قد لا يكشف الرابط عن نفسه بشكل جلي ومباشر ولكن النظر الى الجدل المتعلق بمعرض الكتاب في سياقه وفي المسار الذي يقود اليه سيكشف عن ان هذه النزعة لدى جمهور العامة تتنامي وهي في طريقها الى تضييق الخناق على كل مختلف مما يعنى هدم احد اسس الحريات الفردية وهو حق الاختلاف اذ تعبر حادثة معرض الكتاب الاخيرة عن تكرر نمط الاستهداف المعتمد في ملف المهاجرين غير النظامين،
ذلك ان جمهور المنصات الاجتماعية، «التيك توك» و«الفايسبوك» أساسا، كان على موعد مع خطاب عنف وكراهية يسوق لنظرية المؤامرة جعل من كتيب اصدرته منظمة «يونيسف» يتعلق بالتربية الجنسية القائمة على مقاربة الجندرة، جزءا من مؤامرة وقع دعم موثوقيتها بالتركيز على مقتطفات من الكتيب وتضخيمها لابرازها كخطر محدق بالمجتمع التونسي عبر استهداف الاطفال ومحاولة التأثير عليهم لتبنى مفاهيم غريبة عن ثقافة المجتمع، والقصد هنا هو اشارة الكتاب الى ان العلاقات الجنسية تتجاوز العلاقات المغايرة، ويفسرها بأنها علاقة تجمع بين فردين يعرفان نفسيهما وفق هويتهما الجندرية (الكويرية). هذا كان كافيا للكشف عن نزعة لدى جزء من المجتمع التونسي تعادي هذه الميولات الجنسية وتبحث عن اخضاعها للعرف المجتمعي وللثقافة الشعبية المحافظة. نزعة عبرت عن نفسها بخطاب عنيف وحاد تجاوز منظمة «اليونسيف مكتب تونس» وانتقل الى مجتمع الميم، وانخراط احد ائمة المساجد فيها مؤخرا للتعبير عن موقفه من مثليي الجنس.
هنا قد لا يكون الرابط واضحا وصريحا للبعض، ولكنه يكشف عن نفسه عن نظرة سلوك جمهور المنصات وتشكيله لمواقف جمهور العامة من قضايا الحقوق والحريات، فقبل هيمنة خطاب العنف والكراهية على المشهد، تنطلق حملات تستهدف الاخر المختلف وتبحث عن تنميطه وتقديمه كخطر يهدد المجتمع، هنا اذا كان الخطر المهيمن والبارز لدى العامة هو المهاجرون غير النظاميين، فان ذلك سيتطور تدريجيا، والخشية كل الخشية ان يبحث الجمهور المتشنج عن هدف جديد لتصريف مشاعره البدائية، وهنا قائمة المستهدفين المحتملين قصيرة، وعلى رأسها من لهم ميولات جنسية مختلفة
يتبع