وهو تساؤل لا يكاد يفارقنا منذ أواخر سنة 2011 بعد تلك الأشهر القليلة من الفرح والتفاؤل العارم بالثورة الوليدة التي بدا لنا أنها حررت العقول والقلوب والألسن.
جلّ من يطرح سؤال «فين ماشية البلاد؟» لا يفعل ذلك انطلاقا من اهتمامه بمستقبل البلاد بل تخوفا من الانعكاسات السلبية لتدهور الأوضاع العامة على حالته الخصوصية وحالة محيطه العائلي الضيق، اذ يبدو أننا بعد حلمنا القصير بخلاص جماعي أصبحنا مهووسين فقط بخلاصنا الفردي.
«تونس إلى أين؟» سؤال مركب ومعقد لأنه يختزن ويختزل كل أبعاد حياتناالفردية والجماعية، وهو لا يفهم انطلاقا من المعطيات الموضوعية فقط بل بالعودة أيضا الى عالم المشاعر والتمثلات والمخيال، ومن هذه الزاوية نحن أمام سؤال لا يمكن الاجابة عنه بصفة خطية وبوثوق دغمائي. هنا لا يمكن الفصل بين السؤال والسائل والمجيب ولا يمكن لأحد أو لأية جهة كانت الادعاء بأنه (ها) يمتلك المسافة النقدية الضرورية لكي يخضع هذا السؤال بالكامل لعدسة علوم الانسان والمجتمع، وسوف نجد حتما أن كل اجابة ممكنة لا تملك القوة الديناميكية للسؤال «إلى أين؟» فهي على الأقصى استقراء لما حصل واستشراف جزئي ومنقوص لماقد يحصل.
سوف نحاول في هذا الركن تقديم اجابات أولية على هذا السؤال في أبعاد ثلاثة: سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا اجتماعيا.
تتسارع وتيرة الأحداث السياسية في بلادنا وهي في منحى تصاعدي منذ حوالي ثلاث سنوات.
سوف نحاول الوقوف على الخيط الناظم لأهم ما حدث والمعاني التي يتضمنها الما يحدث هذا.
هنالك قراءتان لما يسمى بمسار 25 جويلية:
1 - التجليات العملية لمشروع الرئيس قيس سعيد الذي انطلق من الشعارات العامة للبناء القاعدي أي نزع السلطة من أيادي محترفي السياسة وارجاعها إلى الشعب وقلب هرم مركز القرار من فوق (أي الدولة المركزية) إلى تحت (أي الأهالي في المحليات) وعندما اصطدم بواقع الحكم تحول إلى مركزة مفرطة للدولة وقرارها مع سعي إلى تغيير علاقات الانتاج، أي تحويل الثروة من «الحيتان الكبيرة» إلى عموم الشعب بواسطة الشركات الأهلية من جهة والصلح الجزائي من جهة أخرى، والخيط الرابط بين كل هذا هو «التطهير».. تطهير الادارة من الذين تسللوا إليها وتطهير القضاء وتطهير البلاد عامة والمحاسبة الشاملة لجلّ من ساهمو في ما يسمى بالعشرية السوداء لا من حكم فقط بل كذلك من عارض ومن كان له نفوذ مادي أو معنوي آنذاك.
2 - هنالك قراءة ثانية لهذه السنوات الثلاث لتجليات مشروع النظام القاعدي وهي الدواعي التي جعلت الدولة بأجهزتها الصلبة تنخرط في هذا المسار من جهة ودواعي المقبولية المجتمعية الواضحة رغم تراجعها النسبي وهل أن هذه الدواعي للدولة والمجتمع هي نفس دواعي أصحاب مشروع النظام القاعدي أم لا؟
يبدو لنا أن القراءة الثانية أهم بكثير من القراءة الأولى لأنها هي التي تفسر لنا طبيعة التحولات التي حصلت في البلاد ولِمَ كانت بهذا اليسر وبهذه السهولة.
لدينا اليوم معطيات صلبة لا يجادل فيها أحد تفيد عدم الاهتمام (وهو أقوى من عدم الايمان) شبه الاجماعي في البلاد بأيديولوجيا البناء القاعدي، وقد تجلى هذا في انتخاب الغرفتين القائمتين بـ«الوظيفة التشريعية» ففي أربع مناسبات دعي فيها المواطنون إلى الاقتراع لم يذهب إلى الصندوق سوى ناخب من أصل ثمانية على الأقصى حتى أننا نجد في هؤلاء المقترعين بالعين المجردة أن جزءا هاما منهم يعتبر أن التصويت هو واجب أداء فروض الطاعة للسلطة أيا كانت هذه السلطة ودليل ذلك وصول هذه النسبة إلى أكثر من 20 ٪ في عدة قرى ومدن صغيرة ونزولها إلى ما يقارب 5 ٪ في المدن الساحلية الكبرى وهذا يعطينا أن المؤمنين فعلا بالبناء القاعدي لا تكاد تتجاوز نسبتهم بالكاد 1 ٪ أو 2 ٪ من مجموع التونسيين.
إذن هنالك شيء آخر يفسر انخراط الدولة بأجهزتها الصلبة وجزء هام من المواطنين فيما يسميه أصحابه بمسار 25 جويلة: انها الرغبة القوية والجامحة التي بدأت بواكيرها الأولى تظهر سنة 2013 وبلغت ذروتها في 2019 بوضع قوس نهائي للانتقال الديمقراطي بغثه وسمينه.
لعله لم يحن الوقت بعد لتقييم بارد وموضوعي للعشرية الأولى للثورة، لكن ومهما اختلفت المواضيع والمواقف لا مناص من الاعتراف بوجود فشل كبير.. فشل وصل الى حدّ التواطئ عند البعض عندما أطلت علينا الجماعات التكفيرية الإرهابية واثخنت في دماء التونسيين، كما طبّع بعضهم مع رموز الفساد واستفادو منهم بنوع من الابتزاز المتبادل دونما خجل أو حياء..
عشرية تميزت أيضا بضعف الدولة وحكامها أمام كل أصناف المطلبيات و«القبائل» الجديدة التي أفرزتها الثورة.. عشرية انتهت بكارثة بشرية واقتصادية في سنتي «الكوفيد».
لكنها عشرية شهدت كذلك تحرر اللسان وتعدد الآراء وزخم لا نظير له للحياة الحزبية والنقابية والجمعياتية والاعلامية والفنية والثقافية والفكرية لكن دون القدرة على تحويل كل ذلك الزخم الى اصلاحات هيكلية دائمة لأجهزة الدولة ومختلف السياسات العمومية الأساسية كالتعليم والصحة والنقل وغيرها مع بقاء الاقتصاد في وضعية القريب الفقير (le parent pauvre).
كان بالامكان اصلاح انحرافات الانتقال الديمقراطي - وهي كثيرة - بمزيد من الديمقراطية مع تحالفات وطنية غير انتهازية وبإحكام نجاعة الأجهزة التنفيذية ولكن طغت فكرة عند جزء هام من التونسيين منذ بداية النصف الثاني لتلك العشرية بأن المستفيدين الوحيدين من الثورة هم السياسيون والنقابيون والاعلاميون ونشطاء المجتمع المدني وتفاقمت الدعوة الى القطع مع كل هذا أي مع الانتقال الديمقراطي برمته، بسلبياته الكثيرة وايجابياته الواضحة كذلك.
كنا نرى رؤي العين الصعود المتنامي لمطلب حكم قوي يضرب بشدة وينهي مرةواحدة كل «انفلاتات» الديمقراطية وأصحابها.
الواضح أن هذا لم يكن مطلب جزء هام من مواطنينا فقط بل كذلك مطلب الدولة وأجهزتها الصلبة.. مطلب هلامي الى حدّ ما. ولا نعتقد أنه تجاوز حدّ الضجر بالموجود، ولعل القطرة التي أفاضت الكأس كانت هي التحالف الانتهازي في البرلمان بين «النهضة» و«قلب تونس» و«ائتلاف الكرامة» الذي تلاعب بهشام المشيشي رئيس الحكومة انذاك وهو الذي قبل كذلك هذا التلاعب معهم وكانت البلاد تحصي كل يوم مئات الموتى كذلك الاخفاق الكبير للدولة رغم التفاني المنقطع النظير لكل الطواقم الطبية وشبه الطبية في البلاد.
هكذا يمكن أن نقول أن انخراط الدولة وجزء هام من المجتمع (لا نعلم كم يمثل بالضبط) في مشروع قيس سعيّد لم يكن من أجل البناء القاعدي أو استئناف المسار الثوري لـ 17 ديسمبر 2010 أو الشركات الأهلية أو الصلح الجزائي أو تطهير الادارة بل كان من أجل انهاء كل مظاهر الانتقال الديمقراطي بواسطة حكم مركزي قوي يقتلع هذا «الانفلات» الديمقراطي من جذوره ويعيد البلاد إلى سالف عهدها و«مجدها» وقد عبّر مرة مسؤول اقتصادي كبير (غادر المسؤولية اليوم) عندما قال أمام جمع من الصحفيين في صائفة 2022: لا تتصورو سعادتنا ونحن نعمل مع كبار المسؤولين في الادارة، فنحن نتكلم نفس اللغة لا كما كان الحال زمن حكم الأحزاب وشطحاتها وتقلباتها (أو هكذا قال).
شعار «لا عودة إلى الوراء» يفهم عند هؤلاء بأنه رفض مطلق للعودة الى حكم الأحزاب ونفوذ الأجسام الوسيطة زمن العشرية الأولى للثورة المسماة بـ«العشرية السوداء»، لكنه كذلك ترحيب لا يكاد يخفي فرحه بالعودة إلى ما تعودت عليه الدولة زمن الراحلين الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس زين العابدين بن علي.
لو ألقينا نظرة اجمالية علىحصيلة هذه السنوات الثلاث الأخيرة لرأينا أن مشروع استئناف ثورة 17 ديسمبر انما هو في الحقيقة التسويق غير الارادي وغير المقصود لمشروع آخر أعمق بكثير وهو السير حثيثا إلى الوراء لاستعادة هيبة الدولة المتمثلة عندهم أساسا في سطوتها وقبضتها الحديدية.
لكن التاريخ لا يعيد نفسه خاصة ونحن أمام مسارين متناقضين مهما بدا انسجامهما الظاهر.
(يتبع)
II - اقتصاديا: السفينة التائهة