حالة الصمت التي لا تتلاءم مع روزنامة البلاد المقبلة قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية التي يفترض أنها تثير النقاش العام وتغذيه بهدف تجويد السياسات العمومية وتحديد وجهة البلاد في سنواتها القادمة.
حالة فريدة ليست مستحدثة او آنية اذ منذ الاستفتاء على دستور 2022 لم تشهد البلاد أي نقاش عام في فضاءاتها العمومية والتي باتت اسيرة لصمت السلطة او لخطاب أحادي لا يسمح بالحوار او المساءلة او لخطاب سياسي يصدر عن المعارضة بمختلف مشاربها والذي يتناقض مع السياسات العمومية المتبعة من قبل السلطة مما ادى الى فتور النقاش العام تدريجيا لنكون إزاء جدل اطراف السلطة التي تقود مسار 25 جويلية ومعارضيها والمختلفين عنها، وهذا الجدل قائم على كيل التهم وإبراز التناقضات والاخطاء في ظل سياق عام بات فيه القضاء محددا لضوابط الناقش في الفضاء العام معتمدا على المرسوم 54.
سياق يضيق تدريجيا في الفضاءات العامة التي يغيب عنها النقاش والحوار بشأن الخيارات السياسية للسلطة وتصوراتها لادارة الشان العام، وقد اختفت منذ أشهر تقريبا اية مظاهر للنقاش العام وذلك بعد انسحاب الاجسام الوسيطة من مختلف الفضاءات العامة التي تشمل وسائل الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي والمؤسسات الدستورية والساحات وغيرها.
انسحاب برز في عدة محطات كان يفترض فيها ان يفتح نقاش عام بهدف تأطير خيارات الدولة لسياستها العمومية وتحديد التوجهات الكبرى للدولة في السنوات القادمة، واثناء مناقشات قانون مالية 2023 ,2024 برز جليا ان السلطة ممثلة في الحكومة اغلقت كل منافذ النقاش وامتنعت عن طرح قانون ماليتها للنقاش العام للدفاع عنه ما عدا جلسات البرلمان العامة وجلسات اللجان، وانتهت الى اقراره دون ان تسمح بالاستفسار عن جوهر خياراتها وعن التصورات التي قادتها لاقرارها ومدى وجود بدائل اخرى ممكنة.
هذا النقاش كان يفترض ان تحتضنه الفضاءات العامة، ومنها وسائل الاعلام. وقد تم تمرير قانون المالية ويبدو ان قوانين اخرى مهمة ستمر دون ان تطرح على نقاش يساهم فيه التونسيون بهدف اثرائه وتجويد النص القانوني قبل صدوره، وذلك خطأ سياسي ستتحمل المجموعة الوطنية تداعياته.
والاجدى بالحكومة او السلطة -مهما كانت جهة اتخاد القرار- ان تدرك ان وضع السياسات العمومية عملية مفاضلة عقلانية للاختيار بين بدائل عبر مسار من التداول والتفاوض للاستقرار على بديل ينمي المنافع ويقود الى نتائج محتملة او تحقيق هدف او مجموعة اهداف، هنا تبرز اهمية النقاش العام في رسم السياسيات العمومية وذلك باعتبار أن النقاش عملية تبادل للاراء ومحاججة يكون سابقا لاتخاد القرار، نقاش حول البدائل وطرق التصرف الممكنة لتحقيق الأهداف او حل معضلة او ازمة، وهذه البدائل تخضع للمفاضلة عقلانية التي تنظر في المصلحة العامة.
لذلك تؤثر غياب النقاش العام وغلق الفضاءات العمومية على اية محاولة لمساءلة الفاعلين الرسميين بشكل واضح وصريح حول طبيعة السياسات العمومية ومدى جودتها التي تقاس بمدى قدرة هذه السياسات على تحقيق الاهداف وحل الازمات، واذا نظرنا بعين مجرة الى المشهد التونسي سنلاحظ عشرات الازمات التي تفاقمت منذ ان انتهجت السلطات التونسية خيار اتخاذ القرار بمفردها دون حوار.
وضعية كان ينظر اليها على انها امتداد طبيعي لحالة الاستثناء وانها شرط من شروط نجاح المسار السياسي الذي رفع شعار القطع مع المنظومة القديمة واحلال اخرى مناقضة لها كليا شكلا ومضمونا دون السماح لاي نقاش عام وذلك ما يتجلى في التضييق على الفضاءات العمومية الجماهرية خاصة، كالاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
تضييق لم يعد بالامكان اليوم ان يستمر قبل أشهر معدودات على انتخابات رئاسية يفترض انها ستعكس تقييم التونسيين لمسار سياسي اعاد تشكيل وجه البلاد وطبيعة نظامها السياسي ويتجه لرسم علاقات انتاج جديدة، دون ان نغفل ان هذا الاستحقاق على عكس سابقيه 2014 و2019 يتطلب ان يقدم فيه المترشح للمنافسة برنامج حكم مفصل يحدد للتونسيين المسار خاصة في ظل الصلاحيات الكبرى التي منحها دستور 2022 للرئيس،
وهذا يتطلب اليوم ان تستوعب السلطات التونسية ان النقاش العام أمر ضروري وملح في المشهد التونسي، وان احد اهم شروطه الدنيا ان يرفع التضييق عن الفضاءات العامة وان تنخرط السلطة باعتبارها المساكة بمقاليد الحكم في النقاش وان تقبل بان تساءل عما اصدرته من قرارت وتخضعها للتقييم.