والتي ترادف عندنا جملة السياسات العمومية التي تهدف في بداية الى تحقيق الاكتفاء الذاتي أو الحد من الاستيراد ( الالبان والبيض واللحوم الحمراء واللحوم البيضاء والحبوب...) أو توفير ما نسميه بالعملة الصعبة (كمنظومات الصناعات المعملية والاستخراجية والسياحة..) و كانت الغاية دائما مزدوجة: اقتصادية واجتماعية، فمنظومة الألبان مثلا سمحت منذ سبعينات القرن الماضي لعشرات الالاف من العائلات في الأرياف بالخروج من حالة الفقر المدقع والدخول في طور الإنتاج بدعم قوي من الدولة ثم أصبحت هذه المنظومة التي تضم الآن أكثر من مائة ألف مرب للأبقار منمية للاتقتصاد مع تحقيق الاكتفاء في مادة أساسية بل أننا أصبحنا نصدر الألبان ومنتوجاتها، كما أن ما يصح على منظومة الألبان يصح أيضا على كافة المنظومات الغذائية والصناعية والخدماتية وكانت كل منظومة تحظى على حدة بعناية خاصة من السلط العمومية من أجل تنميتها ودعم الفاعلين فيها والعمل على تحسين جودتها وتنافسيتها داخليا وخارجيا.
قد يرى بعضهم أن هذه الوضعية تدل بصفة عكسية على غياب نظرة شاملة للنمو وللتنمية وأننا ازاء سياسة فاقدة للطموح.
قد تكون لهذه الانتقادات بعض الوجاهة خاصة عندما نتحدث عن عجزنا في قطاعات عدة عن الارتقاء القوي في سلم القيم ولكننا نظلم البلاد وقيادات الدولة الوطنية عندما نظن أن سياسة المنظومات المتناثرة في ظاهرها لم تكن نابعة من تصور عام اقتصادي واجتماعي لتنمية البلاد.. لقد قام التصور العام لبناة الدولة الوطنية على الفكرة التالية: الاستقلال السياسي الذي حصل سنة 1956 وما تبعه من جلاء عسكري وزراعي سيبقى هشا ومنقوصا ما لم تقم نهضة عامة في البلاد تحارب الجهل باصلاح التعليم وتحسينه وتحرر المرأة باقحامها كاملة الحقوق في الدورة التنموية العامة ومقاومة الخصاصة والخمول بالعمل وخلق مواطن الثروة خاصة وان الثروات الطبيعية للبلاد محدودة وان مناخنا نصف الصحراوي يعسّر كثيرا عملية الازدهار الفلاحي، لذلك كان التعويل على مجموعة كبيرة من المنظومات الفلاحية والغذائية والصناعية والخدماتية حتى لا تبقى البلاد مرتهنة لقطاعات محدودة وكان الوعي منذ بداية السبعينات بأنه دون سياسة قوية لجلب الاستثمارات الأجنبية وتوسيع مضطرد للأسواق الخارجية لا أمل لنا في خلق صناعات تحويلية تكون قادرة على المنافسة وذات قدرة تشغيلية عالية.
هل أن كل شيء كان على أحسن ما يرام؟ قطعا لا ... فقد شهد هذا المنوال صعوبات جمة منذ أواسط العشرية الأولى لهذا القرن حيث ارتفعت بصفة خطيرة نسبة البطالة لدى أصحاب الشهائد العليا وذلك لأن اقتصادنا لم يتمكن من الارتقاء القوي في سلم قيم وسلاسل الانتاج العالمية. ولا شك لدينا جميعا اليوم ان أزمة هذا المنوال والتي انضاف اليها انسداد الأفق السياسي وتحكم العائلات القريبة والمتصاهرة من ساكن قرطاج آنذاك كانت من الأسباب المباشرة والمؤشرة في اندلاع الثورة التونسية.
والسؤال ماذا فعلنا بعد ذلك؟
لقد ظل الخطاب السياسي المهيمن منذ 2011 الى حداليوم يراوح في مناطق جلّها لا علاقة لها بتطوير وتجويد منظومات الانتاج والواضح أن هذاالمنحى قد تعمق خلال هاتين السنتين الأخيرتين حيث أننا لم نلامس مسائل الاقتصاد والنمو والتنمية الا من بوابات الفساد والاحتكار واللوبيات -وهي مسائل هامة دون شك- الا أننا تركنا الجوهر وهو النهوض بكل قطاعات الانتاج وإعادة تحديد السياسات العمومية بشأنها وفق التطورات العلمية والتكنولوجية وتغيرات الأسواق العالمية فتركت، في الأغلب الأعم على حالها تتخبط في تناقضات لا قدرة لها على تجاوزها.
أخشى ما نخشاه أن نفرط من جهة في تراكمات تطلبت منا عقودا من العمل والاجتهاد وأن مقاومة انحرافات الاقتصاد (وهي ضرورية) قد تؤدي الىالاجهاز على الانحرافات وعلى الاقتصاد معا.