مخاطر تهدد المنظومات الغذائية: تونس أمام خيارين: استراتيجية للإصلاح أو خطر الانهيار

نودع قريبا سنة صعبة ونستقبل أخرى دون أن تطلعنا السلطة التنفيذية

على آفاق السنة الجديدة وما تحمله لنا كتونسيين ونحن لا نعلم إلى أين تمضي بنا السياسات العمومية للدولة التونسية ولا عن ماهية هذه السياسات التي غابت عن قانون مالية 2024 وعن خطاب السلطة التي يبدو أنها منشغلة بمجاراة الأحداث دون تصورات إستراتيجية تؤدي الى تلبى حاجياتنا الأساسية.

اليوم وبعد عقود من السياسات العمومية التي انتهجت مع نظام بن علي أو المنتهجة بعد الثورة يتضح جليا أننا إزاء مقاربة عنوانها الأبرز غياب اي تصور تنموي يجيب عن سؤال اساسي وهو كيف يمكننا أن نخلق الثروة وعنه تتفرع عدة أسئلة منها كيف سنوزع هذه الثروة واي مستوى معاشي يمكن ان يقدم للتونسيين، وهل ان الرفاه ممكن التحقق اذا تم الإبقاء على ما يمكن تسميته «منوال نويرة للتنمية»؟

أسئلة عدة لم تقع الإجابة عنها طيلة عقود، انقضت في محاولات سدّ الثغرات التي إصابت المنوال التنموي التونسي القائم على معادلة أساسية وهي تشجيع الاستثمار بتوفير يد عاملة ماهرة وغير مكلفة مقابل لعب الدولة لدور اجتماعي يهدف الى ضمان الحاجيات الأساسية للتونسيين من صحة وغذاء ونقل وطاقة وذلك عبر آلية الدعم التي كانت تصبو إلى توفير خدمات وسلع أساسية بأسعار محدودة تتماشي مع المقدرة الشرائية للتونسيين في ظل اقتصاد يقوم على تأجير ضعيف.

هذه المعادلة قامت على تشبيك جل المنظومات الإنتاجية في تونس بعضها ببعض بهدف أن تتكامل لتشكل صورة نهائية عنوانها الأبرز كان تحقيق نسبة نمو خلال عقد السبعينات بمتوسط يقترب من 7 % نمو كمعدل سنوي رغم السنة الصعبة للاقتصاد في 1973 مقابل هذا النمو المضطرد تم تحميل الريف ومنظومة الإنتاج الفلاحية العبء الأكبر رغم بعض السياسات التي سعت الى معالجة الحيف المسلط على الريف في المنوال التنموي التونسي والتي كان أبرزها برنامج «العائلة المنتجة» الذي كان من العناصر الأساسية التي سمحت بتطوير منظومة إنتاج الحليب واللّحوم الحمراء في تونس خلال سبعينيات وثمانينات القرن الماضي.

هذا الاختلال في المعادلة التنموية كان من العناصر التي أبرزت الحاجة الى تطوير منوالنا التنموي حتى يكون عادلا بين مختلف الجهات والشرائح وحتى يكون مستداما قادرا على خلق القيمة المضافة. للأسف لم يحدث ذلك رغم الحاجة الملحة إليه في عقد الثمانينات الذي سجلت فيه نسبة نمو سلبية في نصفه الأول، قبل أن يستلم نظام بن على قيادة البلاد ويشرع في ادخال تعديلات وصيانة محدودة على المنوال التنموي الذي حافظ على ذات خصائصه الأساسية وعلى نفس النقائص التي انفجرت في وجه الجميع مع انطلاق الألفية الجديدة.

نقائص باتت اليوم أزمة هيكلية مستفحلة عبرت عن نفسها بأزمة الندرة وتآكل المقدرة الشرائية للتونسيين وتفاقم أزمة المالية العمومية واختلال توازناتها، والتي يمكن ان نراها اليوم بالعين المجردة لا في الأرقام والمؤشرات، بالنظر إلى السوق التونسي الذي يعاني من ندرة سلع تشكل أهم عناصر سلة غذاء التونسيين، الحبوب ومشتقاتها والحليب ومشتقاته.

هذه الندرة تفسرها السلطة اليوم بأنها نتاج الاحتكار والفساد، وذلك تفسير غير دقيق او على الأقل لا يمكنه تعليل استمرار ندرة هذه السلع طيلة أشهر، مما يدعو الجميع الى التراجع خطوة الى الوراء والنظر بموضوعية الى منظومات الإنتاج بهدف معرفة مكامن الخلل فيها ، والتي يمكن ملاحظتها مباشرة دون جهد كبير.

اذا نظرنا إلى أهم منظومتي الإنتاج الفلاحي في البلاد والى منظومة الدعم وتعاملنا معها على انها منظومات مترابطة تشكل ما يمكن تسميته «منظومة الامن الغذائي» سنجد ان هذه المنظومات الثلاث تعاني من أزمة هيكلية تفاقمت بسبب غياب تصورات الإصلاح طيلة عقود، منظومة الزراعات الكبرى (الحبوب و الأعلاف) المتصلة بشكل مباشر بمنظومة اللحوم (الحمراء والبيضاء) والحليب وهي متصلة كذلك بمنظومة الدعم، سنجد أن السياسات العمومية المنتهجة عبارة عن «رتوش» وعملية تجميل لإخفاء الخلل الذي عطل منظومة الإنتاج وذلك قبل ان ينفجر الوضع وتحول الى أزمة تمس المستهلك.

فالسياسات العمومية لم تعالج الخلل الرئيسي الذي قام عليه منوالنا التنموي الذي جعل من القطاع الفلاحي قطاعا مكبلا غير جاذب للاستثمار فيه، مما أدى إلى تقلص مساحات الزراعات الكبرى التي أدت إلى تراجع الإنتاج الوطني من الحبوب والأعلاف، والذي انعكس بدوره على صندوق الدعم ومنظومته التي باتت في أزمة هيكلية أثرت على التوازنات المالية العمومية في نهاية العقد الماضي.

نحن اليوم كتونسيين نتحمل أعباء غياب سياسات عمومية لمعالجة ازمة منظومات الإنتاج من قبل السلطة قبل الثورة وبعدها، مع تسجيل فرق وهو ان السياسات العمومية قبل الثورة كانت تنجح نسبيا في تلافي انفجار الازمة وتعمل على توظيف حسن التصرف نسبيا من اجل ضمان استمرار عمل المنظومات والحيلولة دون انهيارها.

نحن اليوم إزاء خطر انهيار هذه المنظومات التي بني بعضها على مدى عقود من الزمن، فندرة المواد الرئيسية في سلة غذاء التونسيين لا تقر بها السلطات العمومية التونسية وبالتالي تنفي ضمنيا خطر انهيار بعض منظومات الإنتاج الفلاحي في تونس، مما يشكل تحديا حقيقيا، إذ لا يمكن أن يعالج ما ننكر وجوده مما سيؤدي إلى أن يكون وقع الانهيار اشد، حتى وإن نجحت السلطة اليوم في كسب بعض الوقت لكنه لا يمكنها أن تحول دون حصوله.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115