لتكشف عن حجم التعقيدات والرهانات السياسية والعسكرية والاستراتيجية، وتكشف بشكل اوسع عن غياب القوى العربية الكلي عن المشهد وعدم قدرتها على التاثير في سيرورة احداثه حتى وان كانت خلاصات تلك الاحداث تحدد مصير بعضها.
في اليوم الـ61 من حرب الاحتلال على قطاع غزة وما خلفته هذه الحرب من خسائر بشرية بارتقاء اكثر من 16 الف شهيد واصابة 43 الف اخرين، مع تدمير كلي او جزئي لمربعات سكنية وبنى تحتية اساسية كالمستشفيات ومحطات المياه والكهرباء ومرافق اساسية استهدفت بشكل مباشر من قبل جيش الاحتلال الذي تقر بعض قياداته السابقة بانه ينتهج عقيدة عسكرية تم رسمها في 2006 تحت اسم « عقيدة الضاحية » التي كان يشرف على رسمها، الجنرال جادي أيزنكوت الذي تولى منصب رئيس الأركان العامة للجيش ووقعت دعوته للعودة من التقاعد بعد السابع من اكتوبر ليشغل منصب مستشار لحكومة نتنياهو ومشرف على تحقيق اهداف عقيدته العسكرية التي تقوم بالاساس على فكرة وحيدة وهي ان تحقق الحرب تأثيرا طويل الأمد وليس نصرا عسكريا.
لتحقيق ذلك يتم اللجوء الى القوة غير المتناسبة والتي تعمل على تدمير الاقتصاد والبنية التحتية وقتل اكبر عدد من المدنيين بهدف تحقيق تأثير رادع مستدام. وقد استخدم هذا التمشي في الحروب الاربع السابقة على قطاع غزة الا أنه لم يبلغ هذه المرحلة من التمادي قط، ففي الحروب الأربع، استشهد حوالي 5000 فلسطيني فيما اسفر القصف العنيف على قطاع غزة الذي استهدف اكثر من 15 الفا هدفا في الشهر الاول منها فقط، المدنيين بشكل مباشر ومتعمد ليقتل اكثر من 15 الفا في الجولة الاولى فقط.
حرب يريد منها الاحتلال تدمير البنية التحتية للمقاومة و ضرب حاضنتها الشعبية في القطاع، ولا يبدو انها قد تحقق اهدافها الاستراتيجية المعلنة وهي تحرير الاسرى لدى المقاومة وتفكيك القدرات العسكرية لحركة حماس، فالمعطيات الميدانية تكشف عن تفوق نسبي للمقاومة في المواجهات البرية التي تكبد فيها جيش الاحتلال خسائر كبيرة منذ بداية التوغل البري في القطاع وذلك ما سعى إلى تقليصه مع استئناف الحرب بتكثيف القصف الجوي بهدف تحقيق اكبر بقدر من التدمير لتيسير عمليته البرية التي اعلن انه خسر فيها حوالي 410 جنديا مع اصابة اكثر من 1000 اخرين، اصابات اكثر من 250 منهم خطيرة.
وهو ما يبرز افضلية المقاومة الفلسطينية في المواجهات البرية التي تديرها اليوم بشكل استعراضي تريد من خلاله ابراز تماسكها وقدرتها على الاستمرار في القتال لاشهر عدة قادمة، وذلك ما لا يمتلكه الاحتلال الذي يواجه اليوم ضغوطا غربية متزايدة تطالبه بانهاء حربه قبل نهاية السنة الحالية، اي انه مطالب بتحقيق انجاز عسكري في ما تبقى له من اسابيع قليلة قد لا تتجاوز الثلاثة.
هنا مكمن التعقيد في هذه المرحلة من الحرب، فالدوائر السياسية في كيان الاحتلال ورطت نفسها باهداف كبرى وبخطاب سياسي جعل من عدم تحقيق هذه الاهداف كليا لا هزيمة عسكرية او استراتيجية فقط بل يتجاوز ذلك ليلقي بثقله على وجود كيان الاحتلال واستمراريته، وذلك ما التقفته وسائل اعلام الاحتلال وروجته لتشكيل راي عام داعم للحرب وللجيش والحكومة.
حرب يدرك الاحتلال انها تفقد مسوغاتها السياسية داخليا وخارجيا، خاصة بعد نجاح صفقة تبادل الاسرى الجزئية في تحرير 110 اسيرا سعت حكومة الاحتلال الى تقديمهم اليوم كضحايا للتعذيب والمعاملة غير الانسانية من قبل المقاومة التي يتهمها الاحتلال بأنها اغتصبت النساء في مسعى جديد لتشكيل رأي عام متعاطف مع حربه على غزة بعد ان انهارت كل مغالطاته ودعايته. وكانت تلك اولى الخسائر المباشرة لحرب الاحتلال على قطاع غزة بفقدانه للدعم الشعبي الغربي بالاساس، وانيهار سردية «الضحية» التي بناها طوال سبعة عقود.
وهذا ما جعل من الاحتلال يستأنف اليوم حربه بشكل اكثر عنفا بهدف تحقيق نصر استراتيجي دائم لتوجسه من ان اي نتيجة مغايرة لذلك ستكون لها تداعيات كبرى على وجوده في المستقبل خاصة اذا انتهت الحرب بخسارة عسكرية وسياسية صريحة ومباشرة لن يعود بالامكان اثرها تسويق صورة الاحتلال على انه « ارض آمنة » لاستقطاب يهود العالم ولا أن يسوق لنفسه بصفته من « الأصول » القيمة للنظام العالمي وكونه قوة اقليمية.
هذه الرهانات الجيوسياسية والاقتصادية هي التي تحرك الجولة الثانية من الحرب على غزة وعلى المقاومة التي يراد لها ان تتأقلم مع متطلبات ومطامحه السياسية والاستراتيجية التي تلتقي عند نقطة اخلاء غزة من اية مقاومة وتفكيك اية قدرات عسكرية وقتالية لدى الفلسطنين لمنع اية امكانية لاقامة دولة فلسطينية قادرة على البقاء.
رهانات الاحتلال وداعميه الغربين الذين جعلوا من الحرب على غزة جزءا من استراتيجية اشمل تخدم المصالح الغربية بالاساس على حساب بقية دول المنطقة التي غابت عن المشهد واكتفت بدور المشاهد او المندد والمبدى لقلقه وهذا ايضا تراجع منذ بداية الشهر الثاني للحرب.