فهل يخلو مجتمع واحد من اجسام وسيطة ومن تعددية سياسية واجتماعية وفكرية وجندرية، هذا اذا خلا من التعددية العرقية واللغوية والثقافية؟
هذا السؤال يطرح في تونس وخاصة منذ 25 جويلية 2021 حيث بدا واضحا للعيان أن عناصر الإيديولوجيا الجديدة ، والتي لا ترى من فائدة في الاجسام الوسيطة من احزاب وجمعيات ونقابات ووسائل اعلام وكل اشكال التنظم الاجتماعي غير القائم على الرابطة الدموية المباشرة (العائلة) او البعيدة (العرش،القبيلة،اللجهة ..) والسلطة الجديدة حتى وإن لم تمنع قانونيا قيام هذه الأجسام الوسيطة الا انها همشت من ادوراها ووظائفها إلى درجة ان البعض اعتقد أنها اندثرت ، او هي في طريقها الى الاندثار، بلا رجعة.
في الحقيقة الشعار المركزي للمشروع الإيديولوجي الجديد «الشعب يريد ويعرف ماذا يريد» لا يمنع – في حد ذاته – دور الاجسام الوسيطة ، والتعددية لذلك يمكن ان نقول ان هذه الاجسام الوسيطة انما هي احدى التعبيرات – ان لم نقل اهمها –عن الارادة الشعبية وان هذه الارادة ليست واحدة البعد ولا ذات اتجاه واحد لذلك احتاجت إلى التعددية الفكرية والسياسة والاجتماعية حتى تعبّر عن ذاتها .
وقد اختار أصحاب هذا المشروع العقائدي الجديد نهجا مغايرا اذ أن الشعب عندهم جوهر بسيط لا تنوع ولا تعدد فيه وبالتالي تكون ادرادته واحدة لا تحتاج الى وسائط أو الى تداول مجتمعي تعددي في الفضاء العام.
فالحق والخير عند هؤلاء واضح وصريح ولكن النخب / الاجسام الوسيطة تتلاعب به وتحوله إلى مصالحها الضيقة الانانية فتستأثر بالسلطة والجاه والامتيازات دون الشعب وتقسم «الكعكة» بينها في ما تسميه تعددية والتي لا تعدو ان تكون إلا تقاسما للأدوار وللمنافع والمصالح .
لاشك ان هذا النقد الجذري للتعددية التمثيلية لا يخلو من وجاهة ولكن هذا القاسم المشترك بين كل الشعبويات الحديثة والمعاصرة يخفي الوجه الآخر من الوصفة لاسيما عندما تصل هذه التيارات الشعبوية إلى السلطة: إذا اعتبرنا أن الاحزاب والجمعيات والنقابات ووسائل الاعلام والبرلمانات التمثلية لا تعبرعن إرادة الشعب، فمن يعبّر عنها اذن ؟ الشعب؟ وكيف يعبر الشعب عن إرادته الواحدة ما دامت هنالك استحالة مادية لتجميع كل المواطنين في اقورا (agora) واحدة للتداول؟ وحتى لو عمدنا الى الاستفتاء العام فنحن أمام آلية ثقيلة لا يمكن استعمالها في كل آن وحين، ثم إن هذه الديمقراطية المباشرة انما تجيب عن سؤال تضعه إما السلطة التنفيذية أو اقلية من المواطنين عبر مبدإ استفتاء المبادرة الشعبية وفي هذه الحالة نحن ازاء جسم وسيط من صنف جديد فقط لا غير.
في كل التجارب الشعبوية التي نجحت في الوصول الى الحكم ماضيا وحاضرا يحصل أمران اثنان: نخب / أجسام وسيطة جديدة تزيح وتعوض النخب القديمة ومركزة السلطة في يد الزعيم وتكون هذه النخب الجديدة وسائط ودعائم للحكم الجديد والمعبرة عن هيمنته الإيدويولجية ، وقد يكون خلو التجربة التونسية الى حد الان ، من هذه النخب / الاجسام الوسيطة الجديدة هو ما يخلق بعض الاضطراب والتشويش، اذ لم تتكون الى حد الان نخب جديدة بالمعنى الدقيق للكلمة قادرة على ازاحة النخب القديمة رغم المركزة المطلقة لسللطة منذ أكثر من سنتين وأربعة اشهر .
ولكن لو عدنا الى النواة الصلبة لهذا المشروع العقائدي الجديد، ترى هل يوجد شعب واحد في الارض يمكن ان نقول عنه انه جوهر بسيط لا تناقض فيه ولا تنوع ؟
ثم أين يوجد الحد الفاصل بين «الشعب» و«النخب» ؟
إننا ببساطة أمام بناء ذهني لا علاقة بواقع الناس وتعقيداته.. بناء مانوي قائم على مقولتي الحق والباطل والخير والشر، فالشعب هو الحق والخير والصفاء، والنخب هي الباطل والشر والفوضى ، وما دام الشعب واحدا فهو يحتاج الى قائد واحد وعقيدة واحدة ونهج واحد ..
لاشك ان للديمقراطية التمثلية عيوبا كثيرة وانها بحاجة الى ان تجدد نفسها وأدواتها والا تشرّع لنوع من الارستقراطية الجديدة الا أنه في واقع التجربة التاريخية في كل بلدان الدنيا ما يقابل الديمقراطية التمثلية ليس هو حكم الشعب في ديمقراطية حقيقية بل الحكم التسلطي مهما تعددت وتنوعت اشكاله وادواته والمشروع الإيديولوجي الذي يقوم عليه.