وهذا الامر ينطبق بدوره على مجلس نواب الشعب الحالي الذي يسعى جاهدا بكل ما لديه ليتمايز عن المجالس السابقة رغم انه يستعير منها الكثير بل ان من يمعن التدقيق سيجد ان البرلمان الراهن اتخذ من المجلس القديم نموذجاّ شكل العقل الجماعي للنواب ودفعهم الى استحضار روح دستور 2014 لتسيير مؤسسة قامت شرعيتها على دستور 2022.
مع اول جلسة له في مارس الفارط كان شعار مجلس النواب الحالي القطع الكلي شكلا ومضمونا مع المجالس السابقة التي تستحضر في المخيال الجماعي جنبا الى جنب مع وصم سلبي لما كان عليه العمل السياسي والبرلماني اساسا، هذا الهاجس الذي يتقاسمه النواب بمعية القائمين على مسار 25 جويلية الذي رفع شعار اساسيا له وهو القطع مع القديم شكلا ومضمونا.
لكن وبمرور الايام والمحطات الهامة في البرلمان يتضح جليا اننا امام حالة فصام، فالخطاب السياسي والحراك الباحث عن التمايز الكلي والحاد عن البرلمان السابق الذي اسس له في دستور 2022 الذي جعل من المجلس احد غرف «الوظيفة التشريعية» محددة المهام والادوار التي يمكن اختزالها في المصادقة على النصوص القانوني لتيسير عمل السلطة التنفيذية.
دستور 2022 الذي رسم مهام البرلمان وضبطها في اطر شرحها رئيس الجمهورية في اكثر من مناسبة لعل اخرها في كلمته يوم 2 نوفمبر الفارط والتي اعاد فيها تقديم تصوره لدور المجلس وحدود هذا الدور، معلنا ان رسم السياسات العمومية للدولة دور الرئيس والسلطة التنفيذية وفق دستور 2022 في تلميح الى ان مسعى البرلمان الى المساهمة في رسم سياسات البلاد هو تجاوز لدوره.
هذا الدور الذي ضبط ورسم بشكل صريح وواضح من قبل السلطة التنفيذية، هو ما يبحث البرلمان الحالي على لعبه والسبب على ما يبدو هو هيمنة الصورة الذهنية للبرلمان السابق على السياسيين في تونس، وخصوصا على نواب المجلس الحالي.
التاثير يبرز باشكال عدة على البرلمان والنواب، اذا تعلق الامر بتنظيم عمل المجلس وهيكلته، فالنظام الداخلي للبرلمان الراهن استلهم جزءا من فصوله من النظام القديم، الذي نظم عمل المجلس وهيكلته لتتضمن مكتب مجلس ولجان حافظت على تسميتها، وكتل تنظمت بذات ادوات تنظم الكتل في البرلمان السابق رغم ان القانون الانتخابي كان على الافراد وهو ما ادى لضعف تمثيلية الاحزاب او الائتلافات، بل ولجنة التوفاقات التي استنسخت من التجارب القديمة بذات التركيبة والمهام والصلاحية.
الاقتداء بالقديم قد يكون مرده ان القديم بدوره استلهم من تجارب اخرى، وبالتالي حينما استلهم نواب المجلس الحالي افضل نظم وهيكلة تيسر عملهم وجدوا انفسهم في تماه مع السابق، او هكذا يمكن ان يبرر البعض هذا الشبه الصارخ بين المجلسين في الهيكلة والتنظم والنص الداخلي، ولكن هذا التبرير لا يصمد اذا نظرنا للسلوك السياسي للنواب والى الصورة النهائية للمجلس التي تنقل مباشرة الى الشارع التونسي.
وهنا قدمت لنا نقاشات قانون مالية 2024 وجلسة المصادقة على مشروع قانون تجريم التطبيع، عناصر اضافية تساعد على وضع اجابة اكثر دقة في علاقة بسؤال: هل اتخذ البرلمان الحالي من المجالس السابقة نموذجا ذهنيا؟ وهل ادى هذا الى استحضار « روح دستور 2014 » في جلسات برلمان 25 جويلية؟.
على هذا الصعيد نلاحظ أن التنظم الهيكلي للمجلس واليات عمله تقدم لنا اجابة اولية، وهي ان البرلمان الراهن ومجموع نوابه حتى وان اعلنوا العداء السياسي والتنظيمي على القديم الا انهم استحضروه كما هو شكلا اي انهم اتخذوا من اليات تنظيم البرلمان السابق نموذجا للعمل دون ان يقع الانتباه الى ان البرلمان السابق ضبط هذه الاليات والهيكلة لتتناغم مع القانون المؤقت المنظم للسلطة العمومية في فترة المجلس التاسيسي وعلى دستور 2014 في العهدتين البرلمانتين اللاحقتين، 2014و2019.
فالشكل التنظيمي الذي اتخذه البرلمان عكس البناء القانوني والسياسي له في الدستور باعتباره المركز الفعلي للحكم في تونس الذي يصوغ السياسات العمومية لها، لكن التجربة الراهنة البرلمان الحالي تجعله وليد دستور كرس نظاما رئاسيا حددت فيه ادوار المجلس في مهام تشريعية فقط دون صلاحية رسم السياسات العمومية.
هذا الخلط الذي وقع فيه نواب برلمان 2023 كشف عن عمق التاثير الذهني للمجالس القديمة على الحياة السياسية التونسية، فالبرلمان الراهن الذي يسعى للتمايز عن تلك المجالس وجد نفسه يتبع اثر تلك المجالس، فجل كلمات النواب في النقاشات العامة استحضرت الموروث القديم المتمثل في استعمال الجلسات لمخاطبة جمهور الناخبين، عدم استيعاب مهمة النائب ودوره ليجد بعض النواب انفسهم يتحدثون على انهم « سلطة تنفيذية»، او ان يتقدم النواب بمطالب وتوجيه رسائل للسطة التنيفذية للتتدخل في بعض الملفات او ادانة نهجها السياسي الخ، كما كان عليه الامر في المجالس القديمة.
هيمنة صورة المجالس السابقة على العقل الجمعي للنواب تبرز ايضا في النهج السياسي الذي يسلكونه في علاقة برئاسة المجلس، وهم يستحضرون الصراعات الداخلية التي عاشها المجلس في عهدة 2019 /2021 واساسا مساعي ازاحة رئيس المجلس عن منصبه اما بسحب الثقة او بتعديل النظام الداخلي لاقرار انتخاب رئيس المجلس مع كل سنة برلمانية.
هذه الصورة التي تبرز اننا ازاء لخبطة ستؤثر عاجلا ام آجلا على العلاقة بين المجلس وباقي مكونات الحكم، فاليوم يهيمن « النموذج » على العقل السياسي للنواب وتحديدهم لسلوكهم البرلماني والسياسي الذي يتعارض مع دستور 2022 ومع اهم مقولات مسار 25 جويلية.