حول رسالة رؤساء الجامعات إلى رئيس الحكومة المكلف

تناقلت بعض الصحف اليومية فحوى رسالة بعث بها بتاريخ 11 أوت مجلس رؤساء الجامعات التونسية إلى رئيس الحكومة المكلف ينبهونه فيها إلى ما آل إليه وضع التعليم العالي من تدهور بات ينبئ بالانهيار ويدعونه فيها إلى تعيين وزير للتعليم العالي والبحث العلمي « ملمّ بمشاكل القطاع إلماما دقيقا وله رؤية إصلاحيّة حقيقيّة»

ومحذرين إياه في نفس الوقت من فكرة رائجة تدعو إلى « تجميع ما يتّصل بالتربية والتعليم والبحث العلميّ في هيكل واحد» وهو، في رأيهم، ما «سيجعل أيّ إصلاح مستحيلا». كما ختم رؤساء الجامعات الموقعين على نص الرسالة رسالتهم بلفت نظر رئيس الحكومة المكلف إلى : « إن رؤساء الجامعات التونسيّة هم الممثّلون فعليّا لكلّ الجامعيّين الّذين انتخبوهم للإشراف على جامعاتهم ومؤسّساتهم وبحكم ما لرؤساء الجامعات من معرفة بالواقع الجامعيّ والبحثيّ ومن تجربة واسعة في التعامل مع هياكل الوزارة فإنّهم يدعون السيّد رئيس الحكومة المكلّف بالإصغاء إلى مقترحاتهم في شأن من سيتولّى حقيبة التعليم العالي والبحث العلميّ».

لا بُد من الإشارة بادئ ذي بدء أنه من الهام جدا أن يراسل جامعي سواء كان متحملا لمسؤولية إدارية داخل المؤسسات الجامعية أم لا رسالة مفتوحة إلى الوزير الأول المكلف بتشكيل حكومة وهو يتولى التشاور حول تركيبة حكومته وبرامجها. وتتأتى هذه الأهمية من كون المنظومة التعليمية عموما والتعليم العالي والبحث العلمي خصوصا تعاني في بلادنا إشكالات هيكلية منذ عقود لم تفلح كل المشاريع الإصلاحية التي تم إقرارها إلى الآن من الخروج من الأزمة إما لكونها محدودة وظرفية أو لغياب الدعم اللوجستي ولقلّة الموارد أو لإشكالات لها علاقة بالتسيير والحوكمة وغياب الجرأة السياسية لاتخاذ القرارات الحاسمة. وعليه فان الرسالة هامة نظرا لحجم التحديات المطروحة ولضرورة أن تكون هناك توجهات إصلاحية واضحة مسنودة بإرادة سياسية للتغيير .

غير أن الإشكال يكمن في كون الرسالة أشارت إلى الوضع المتدهور لمنظومة التعليم العالي دون تشخيص المشاكل. فقد كنّا ننتظر منها تقديم جملة من المؤشرات الدالة على أزمة الجامعة التونسية بدءا من الخارطة الجامعية التي باتت مراجعتها ضرورة ملحة تتطلب جرأة وشجاعة سياسية ،تقييم الجودة والأداء على جميع المستويات بطرق علمية محايدة وموضوعية، التدريس وسبل تحديثه وتطويره، وضع المكتبات الجامعية، تكنولوجيا البيداغوجيات الحديثة ، التعليم عن بعد ، الزمن الجامعي، الامتحانات وطرق التقييم لمستوى الطلاب، مشاكل الانتداب والارتقاء، آليات تسيير المخابر ووحدات البحث، البحث العلمي والتأهيل الجامعي وغيرها من المسائل العاجلة. كل هذه المشاكل قد اختزلت، فيما يبدو وفق ما تسرب لوسائل الإعلام من محتوى الرسالة ، في قضية واحدة هي المركزية المقيتة التي تشكو منها الجامعة التونسية وضرورة التعجيل بإقرار استقلالية الجامعات وفي ضرورة أن يتشاور رئيس الحكومة المكلف مع رؤساء الجامعات حول الشخصية التي ستتولى حقيبة التعليم العالي والبحث العلمي.

وما يحيّر حقا في هذه الرسالة أن رؤساء الجامعات، مع أنهم أصحاب قرار وجزء من سلطة الإشراف، باعتبارهم أعضاء في مجلس الجامعات إلى جانب المديرين العامين للتعليم العالي ووزير التعليم العالي والبحث العلمي الذي يرأسه، يبدون وكأنهم يتفصّون من المسؤولية فيما آلت إليه أوضاع التعليم العالي ليلقوا بها على عاتق الوزير الحالي وإدارته وينبهون رئيس الحكومة المكلف إلى « ما شهده قطاع التعليم العالي والبحث العلمي خلال السنوات الماضية من تراجع وتفاقم للمشاكل وعجز عن تطوير منظومتي التكوين والبحث، الشيء الذي أدّى إلى تفكّك المنظومة بشكل ينذر بمزيد التدهور». والحال أنهم جزء من الإدارة العامة للتعليم العالي يشاركون في اتخاذ القرارات ويتكفلون بمهام تسييرية ويساهمون في ضبط السياسات العامة للتعليم العالي من خلال مجلس الجامعات ومجالس الجامعات التي يرأسونها كما أنهم يساهمون في تشكيل اللجان القطاعية ولجان الانتداب وإحداث الخطط الجديدة في المؤسسات الجامعية وتعيين مديرين في المؤسسات التي لا ينتخب فيها المديرون وغيرها من المهام والصلاحيات التي ضبطها لهم القانون.

لذلك نرى من جهتنا أن مسؤولية الوضع الحالي مشتركة بين الإدارة المركزية للتعليم العالي والجامعات ولا يتحملها طرف بمفرده. فرؤساء الجامعات فشلوا في جعل مجالس جامعاتهم أطرا لتقديم المقترحات حول إصلاح منظومة التعليم العالي وللمداولة والمناقشة الحرة والديمقراطية حول سبل إصلاح المنظومة ومنعها من التفكك والانهيار. ولم يستطيعوا تشكيل قوة وازنة داخل مجلس الجامعات من أجل الدفع نحو تلافي الإخلالات ووضع اللبنات الأولى لإصلاح شامل مستقبلي لكامل المنظومة. ولسائل أن يسأل : إذا كان رؤساء الجامعات قد فشلوا في تغيير الأوضاع من خلال مجلس الجامعات ومن داخل هياكل وزارة الإشراف، كما يبدو من صيحة الفزع التي عبرت عنها رسالتهم، لماذا سكتوا كل هذه المدّة وهم على رأس الجامعات؟ لماذا لم يقدّم أيّ منهم استقالته من منصبه احتجاجا على تدهور وضع الجامعات التونسية وتأخرها في كلّ ترتيب سنوي للجامعات سواء كان دوليا أو إفريقيا أو عربيا أو جهويا؟ لماذا قدّم العديد منهم ترشّحهم لولاية ثانية لخلافة نفسه على رأس نفس الجامعة مع عجزهم منذ الولاية عن إيقاف التدهور ومنع تفكك المنظومة وتعذر الإصلاح كما يقولون؟

ومن جهة أخرى فإن ما ورد في نص الرسالة من دعوة إلى رئيس الحكومة المكلف إلى أن يصغي إلى مقترحات رؤساء الجامعات في شأن من سيتولى حقيبة التعليم العالي والبحث العلمي باعتبارهم «الممثلين فعليا لكل الجامعيين اللذين انتخبوهم» وكذلك أيضا بحكم « ما لرؤساء الجامعات من معرفة بالواقع الجامعيّ والبحثيّ ومن تجربة واسعة في التعامل مع هياكل الوزارة» ليدعو حقا إلى الاستغراب.ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نقدم الملاحظات التالية:

إن المشاكل التي يتخبط فيها التعليم العالي عديدة ومتنوعة ولا تقتضي معالجتها تعيين «تقني» أو «خبير» على حقيبة التعليم العالي بل شخصية سياسية تحظى بسند حزبي تكون قادرة على اتخاذ القرار وعلى صياغة رؤية شاملة والتشاور في شأنها مع الأطراف المعنية من الجامعيين وغير الجامعيين من أجل الارتقاء بالمنظومة الجامعية ومراجعة آليات تمفصلها مع محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي والسياسي ، حتى تستطيع تجاوز حالة العطالة والتكلس اللذين تعاني منهما.
لا بُدّ من تذكير رؤساء الجامعات التونسية أن جامعاتنا في وضع لا تحسد عليه من حيث الترتيب العالمي للجامعات وأنهم مسؤولون كغيرهم على هذا الوضع وأن من الأنسب الابتعاد عن أسلوب من يمتلك الحقيقة ويقدم النصيحة للآخرين.

نجلب الانتباه إلى أن الانتخاب على رأس الجامعات لا يعني التفويض من الأساتذة الجامعيين لرؤساء الجامعات حق تقديم الرأي والمشورة للسياسيين حول من يتولى حقيبة التعليم العالي والبحث العلمي وإصلاح منظومة التعليم العالي.

إن الجامعة ليست قلعة مغلقة لا يعرفها إلا من بداخلها فمشاكلها معلومة ومعروفة من المجتمع ومن السياسيين وإصلاحها لا يحتاج إلى قرارات تقنية وإنما سياسية بالأساس.

إن فكرة قطب للتعليم يضم التربية والتعليم العالي والتكوين المهني، التي سارع رؤساء الجامعات برفضها، لهي فكرة حريّة بالنظر والتعميق ولها وجه من الصواب ولا بُدّ من مناقشتها بجدية. كما يجدر التنويه هنا أن بلدانا مثل فرنسا اعتمدتها وحوّلت وزارة التعليم العالي إلى كتابة دولة ملحقة بوزارة التربية والتعليم دون أن يثير ذلك إشكالا ودون أن يعترض مجلس رؤساء الجامعات الفرنسي على هذا القرار السياسي.

نرى من الضروري تعيين شخصية سياسية على رأس التعليم العالي لا يشترط فيها أن تكون جامعية ويكون لها مشروع سياسي إصلاحي مدعوم من حزب أو تحالف أحزاب. فالإصلاحات العاجلة واضحة ومعروفة وما هو مطلوب هي المعرفة بالملف والإلمام الجيّد به والقدرة على التواصل مع الرأي العام والدفاع عن الإجراءات المزمع اتخاذها أمامه لحمل جميع الأطراف المتدخلة في التعليم العالي على تغليب مصلحة المجتمع على المصالح الشخصية والفئوية الضيقة.

وأخيرا لا يفوتنا أن نذكر أن هذه هي المرة الثانية التي يسمع فيها الرأي العام والجامعيون بوجود هيكل في شكل جمعية يدعى مجلس رؤساء الجامعات وقد كانت المرة الأولى بمناسبة تكليف الحبيب الصيد بتشكيل حكومة إذ أصدر هذا المجلس بيانا يدعوه فيها إلى التشاور معه حول الشخصية التي سيسند لها حقيبة التعليم العالي والبحث العلمي وهذه المرة هي الثانية التي يوجه فيها نداء إلى رئيس حكومة مكلف باستشارته حول الشخصية التي ستعهد إليها حقيبة التعليم العالي. أما ما عدا ذلك فلم يسمع الجامعيون لهذا المجلس من نشاط يذكر.

عبد الستار السحباني، أستاذ تعليم عال في علم الاجتماع، جامعة تونس
منير الكشو، أستاذ تعليم عال في الفلسفة، جامعة تونس

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115