بل هي جهنمية الشكل بغض النظر عن المضمون والأهداف.. كل هذا مقابل سذاجة التخطيط والتكتيك عند منافسيه ومناوئيه ..
ولكن الحقيقة على غير هذه الصورة «الوردية» أو «الجهنمية» إذ «الدهاء» الوحيد المحسوب له كان في قبوله بصفقة ما في صائفة 2013 مع الراحل الباجي قائد السبسي في لقاء باريس الشهير والذي بموجبه تمكنت البلاد من تجنب الأسوإ ومن طي صفحة الترويكا بأخف الأضرار الممكنة.. ولكن الدواعي آنذاك كانت بالأساس الخوف من مصير الإخوان في مصر ومن عودة حركة النهضة إلى المربع الأول ،أي الإقصاء السياسي بعد حكم كارثي لم تجن منه البلاد سوى استفحال العنف والإرهاب والسعي المحموم لأسلمة الدولة والمجتمع ..
وفي الحقيقة إن هذا «الدهاء» المفترض عند زعيم حركة النهضة محدود للغاية ويكفي للدلالة على ذلك كل المناورات التي أقدمت عليها الحركة الإسلامية خلال هذه السنة الأخيرة وانتهت بهزائم سياسية واضحة ضد خصوم لم يتميزوا بمكر استثنائي أو بدعم خفي ولكن فقط تصرفوا مع «الشيخ» وحزبه من موقع المناورة المستقلة ليس إلا ..
ففي ظرف سنة واحدة فقط خسر حزب النهضة الانتخابات الرئاسية منذ الدور الأول ثم تقدم نسبيا في التشريعية ولكنه حقق أسوأ نتيجة له منذ سنة 2011 وخسر مقارنة بالتأسيسي ما يتجاوز 900.000 صوت و400.000 صوت لو عدنا إلى انتخابات 2014 والتي خسرتها النهضة..ثم عجزت الحركة الإسلامية وقياداتها عن تشكيل حكومة وفوتت على نفسها فرصة تشكيل مشهد سياسي ملائم لها كما فشلت في فرض إراداتها من بعد ذلك على حكومة الفخفاخ رغم كونها تمثل نصف حزامه البرلماني ..
«الانتصار» الوحيد للغنوشي على امتداد هذه السنة الأخيرة كان مقعد رئيس البرلمان بفضل تحالف انتهازي مع عدو الأمس قلب تونس، «انتصار» كان ثمنه السياسي باهضا للغاية إذ هو السبب في فشل حكومة الجملي بداية وفي توفير فرصة استثنائية لخصوم النهضة ليجعلوا من رئاسة «الشيخ» مجزرة سياسية بأتم وأقوى معنيي الكلمة .
واليوم حين اعتقدت النهضة أن الفرصة سانحة للإطاحة بحكومة الفخفاخ هاهي تتلقى الضربات من الجميع وتسعى الآن جاهدة لإنقاذ كرسي الغنوشي المهدد بقوة والذي قد يشهد هذه الشهر أقوى وأقسى هزيمة سياسية له .
في الحقيقة نحن لسنا أمام «دهاء» أو «غباء» سياسي نحن فقط أمام سوء تقدير مفزع للوضع السياسي العام للبلاد ولموقع حركة النهضة ورئيسها فيه.
لم يع راشد الغنوشي والدوائر السياسية والعائلية المحيطة به حقيقة سهلة وبسيطة للغاية: أن تكون الحزب الأول بخمس أصوات الناخبين لا يعني مطلقا أن تكون الحزب الأول في قلوب التونسيين.
ما لم يدركه الغنوشي و«الأدمغة المفكرة» حوله أن في السياسة معركة القلب أهم بكثير من معارك الصندوق وان خسارة الأولى ستؤدي حتما إلى خسارة الثانية وان الفوز الانتهازي العاجل إنما هو هزائم إستراتيجية آجلة .
يبدو ان مأساة الدوائر المقربة من «الشيخ» هي عجزها على طرح سؤال بديهي فما بالك بالإجابة عنه: لِمَ يكره التونسيون راشد الغنوشي ؟ ولم يتذيل قائمة الثقة في السياسيين منذ سنوات عديدة زادته رئاسته لمجلس النواب حدة على حدة ؟ والحال أن الجواب واضح فهذا التباعد النفسي مع رئيس ومؤسس حركة النهضة يختزن ويختزل كل أبعاد الريبة والخوف من المشروع الحقيقي أو المفترض للإسلام السياسي في بلادنا، وأن كل المساحيق الظاهرية من «فصل بين الدعوي والسياسي» و«الإسلام الديمقراطي» واللباس الإفرنجي .. كل هذا لم يبدد المخاوف بل زادها قوة وزاد في اقتناع اجزاء هامة من التونسيين بان النهضة وزعيمها يخططان لأمر غير محمود وان حساباتهما الداخلية والخارجية أهم لديهما من مشاغل البلاد والعباد .
يكفي أن نعلم بأن كل سياسة راديكالية معادية للنهضة (نداء تونس في 2014 والدستوري الحر في 2020) كافية لوحدها لتحقيق فوز انتخابي لنرى مدى قصر النظر النهضوي وسوء تقدير الأوضاع السياسية والنفسية في البلاد..
نحن على يقين بأن هذه المعطيات البسيطة ليست خافية على الجزء الأكبر من القيادات النهضوية ولكن ما لم تفلح فيه هذه الأخيرة هو تحويل هذه المعطيات الصلبة إلى خطة سياسية ملائمة بغض النظر عن المصالح الشخصية والعائلية والسياسية المرتبطة برئيس الحركة.. وهذا العجز عن التأقلم مع الواقع المحلي عند النهضة وعند غيرها أيضا، هو المدخل الأهم لهزائم اليوم والغد ..
لسنا ندري هل ستكون الكتل النيابية المطالبة بسحب الثقة من راشد الغنوشي كرئيس لمجلس نواب الشعب قادرة على تجاوز حاجز الأغلبية المطلقة (109 نائبا) أم لا ؟ ولكن نجاحها في تقديم لائحة في الغرض وبالتالي فرض مناقشة لسحب الثقة في جلسة عامة قد تلتئم في نهاية هذا الشهر ما لم تتلاعب الأغلبية بهذا الموعد داخل مكتب المجلس، كل هذا يمثل ولاشك هزيمة سياسية ومعنوية لشخص الغنوشي ويظهره، مجددا، في دور العاجز عن التجميع وبالتالي عن لعب دور سياسي في البلاد يتجاوز الدوائر الضيقة لحزبه ولحلفائه العرضيين .
يبدو أن متلازمة حصان طروادة هي الصورة الاقدر للتعبير على حسابات الربح والخسارة لزعيم الحركة الإسلامية في بلادنا .