وقبل كليهما لرئيس مجلس النواب، ثلاثتهم عبروا بشكل صريح عن الكيفية التي سيديرون بها تقاسمهم للسلطة وتزاحمهم عليها.
خلال الساعات الفارطة، هيمن على المشهد ملف حكومة الياس الفخفاخ وجلسة منح الثقة، التي انتهت في ساعات الصباح الاولى من يوم امس بمرور الحكومة بأغلبية 129 نائبا، جلسة لم تكتف بكشف اغلبية الحكم او مدى التزام الحزام السياسي للحكومة بدعمها بقدر ما كشفت عن ان العلاقة بين ثلاثي السلطة ستكون قائمة على الصراع ومحاولة فرض تصور على البقية.
صراع ينجم عن اختلاف التقديرات والتصورات لكيفية تنزيل النظام السياسي/ الحكم المنصوص عليه في الدستور التونسي موضع تنفيذ، أي كيفية تقاسم الحكم وفق ما يحدده الدستور من صلاحيات ومجال لكل مكونات مثلث الحكم، رئاسة الجمهورية، مجلس نواب الشعب، رئاسة الحكومة.
صراع انطلق منذ فترة بين رئاسة الجمهورية ومجلس النواب، قبل ان يمتد لشمل الوافد الجديد لفضاء الحكم، الياس الفخفاخ وحكومته التي استمعت مثل نواب الشعب لبيان رئاسة المجلس الذي تلاه راشد الغنوشي قبل ان يصعد الفخفاخ لتقديم بيان حكومته.
بيان سياسي بالأساس لم يسبق ان قدمه مجلس النواب في جلسات منحه الثقة لأي رئيس حكومة منذ اعتماد الدستور الصغير/ النظام المؤقت، بل ولم يقدم في جلسة منح الثقة للحبيب الجملي جانفي الفارط.
واهم ما ورد في البيان هو الاشارات الصريحة لرئيس المجلس ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي على ان المجلس هو مصدر السلطة وصاحبها، وان هذا المجلس افرزته انتخابات اختار فيها التونسيون ممثّلیهم في البرلمان، ولان البرلمان مفوض من الشعب فله ان يتحدث باسمه ويحدد ما ينتظره من الحكومة.
انتظارات قدمها الغنوشي كالتالي هم الیوم ینتظرون من الحكومة أن تحقق لهم انتظاراتهم في العیش الكریم من خلال دیمقراطیة الخدمات وتحسین المرفق العام وخاصة في النقل والصحة والتعلیم والسكن في إطار أولویة العدالة الاجتماعیة والتنمیة المستدیمة والتوزیع العادل للثروة»، وايضا « یتطلّعون إلى حكومة ّ قویة ومتضامنة قادرة على إنجاز المطلوب وبعث أمل جدید للتونسیین».
ولان المجلس لا يكتفي بالتعبير عن الشعب بل يعوضه ويمثل في السلطة فان مجلس النواب الذي اعتبره الغنوشي مسؤولا مثله مثل باقي شركائه في السلطة، وفق ما يخوله الدستور من صلاحيات تنفيذية للحكومة ولكن تشريعية ورقابية للمجلس على الحكومة، مهمة يعبر عنها الغنوشي في بيانه بشكل صريح بقوله «إن مجلس نواب الشعب، انطلاقا من مهامه ّ الدستوریة وتمثیله للشعب».
ولان المجلس مسؤول فان عليه ان يرسم بدوره الاولويات واولها الاصلاحات التي قال ان المجلس «سیسرع في ّسن التشریعات التي تخدم التونسیین ّ وتعزز آمالهم في تغییر واقعهم المعیش الصعب، وسیعطي ّ أولویة مطلقة للتشریعات المحفّزة للاستثمار والمشاریع التنمویة وتحسین البنیة ّ الأساسیة، خاصة في الجهات الداخلیة ّ المهمشة، والخدمات ّ العمومیة في النقل والتعلیم والصحة والأمن، مسار الإصلاحات الكبرى ویحقق الانتقال الاقتصادي والاجتماعي المنشود».
والمجلس ايضا في بيان رئيسه سیعمل في ظل توافق برلماني ووطني واسع على استكمال إرساء بقیة المؤسسات الدستوریة ومن أوكدها ّ وأولها المحكمة الدستوریة التي تعتبر أولویة وطنیة.
بيان حدد من خلاله المجلس ما له وكيف سينزل سلطته على الارض، وهو تمش تتقاطع فيه حركة النهضة مع قلب تونس وائتلاف الكرامة الهادف لابراز مكانة مجلس النواب في النظام السياسي التونسي، مكانة تجعله صاحب سلطة وليس مشرع قوانين للسلطة التنفيذية.
رسائل يبدو ان الفخفاخ الذي تلا بيانه بعد الغنوشي وحدد بدوره ماله وما عليه، لم يغفل عنها واختار ان يكون رده مبطنا ولكن مباشر، فالرجل اختار ان يذكر المجلس بانه لم ينجز اهم اولوياته في العهدة السابقة وهي استكمال المؤسسات الدستورية واولها المحكمة الدستورية التي اشار اليها رئيسه في كلمته.
رد سبقه شرح الرجل لما ينتظره من المجلس، وهو الدعم والمساندة لضمان ان تكون حكومته قوية وقادرة على الانجاز والاصلاح وتنفيذ برنامجها واولوياتها التي يتقاطع بعضها مع ما يطلب به المجلس ولكن ذلك ليس استجابة للمجلس وانما لاكراهات الواقع .
الفخفاخ الوافد الجديد على مثلث الحكم لم ينشغل كثيرا بالتموقع في ساحة المعركة على السلطة مع المجلس، ولكنه سيخوضها قريبا، اما الان فقد قاد المعركة بالنيابة عنه وعن نفسه رئيس الجمهورية الذي اختار بدوره ان يلقي كلمة في جلسة اداء اليمين للحكومة الجديد.
كلمة حملت الكثير من الغمزات، على غرار ان الدولة تستمر بالادارة أي الجهاز التنفيذي حينما ينشغل جهازها التشريعي في الصراعات والخلافات السياسية، حيث قال بشكل صريح «إن الدولة استمرّت بكامل مرافقها العمومية، رغم المخاض الطويل والعسير والتعثّر والمدة الطويلة التي شهدها تشكيل الحكومة الجديدة»، واستمرت ايضا حين كان «النقاش متواصلا داخل مجلس نواب الشعب إلى فجر اليوم الخميس ولكن المرافق العمومية ظلّت تعمل».
استمرارية الدولة في ظل ازمة هذا ما يشير اليه الرئيس، ولكن الازمة من وجهة نظره هي ليست أزمة نظام حكم أو مسائل دستورية وإنما هي أزمة منظومة كاملة» ولكنها تعالج في اطر الدستور، وأكّد أنه «بالرغم من الأزمة التي عاشتها تونس، فإنه لم يتم اللجوء إلاّ لنصوص القوانين ونص الدستور»، هنا غمز لرئيس المجلس حينما ذكره بضرورة ان «يسعى المُشرّع إلى أن تطابق التشريعات بين الشرعية والمشروعية».
تسيير الدولة لم يكن سهلا وفق رئيس الجمهورية ولكنه تم، كما هو الحال للمشاورات الحكومية التي كانت مضنية بسبب ان البرلمان «لم تتوفر فيه الأغلبية الواضحة»، ولم يغب ايضا عن قيس سعيد ان يشير الى ان الحكومة هي حكومة رئيس الحكومة».
ثلاثة خطابات ان وقع عزلها عن السياق الراهن للبلاد وللصراعات الخفية والمعلنة بين مثلث حكمها، الذي اكتمل بنيل الحكومة للثقة، قد تكون مجرد كلمات غير أنها تحمل الكثير من المعاني والتأويل، لكن حينما تاتي هذه الخطابات في سياق الرهان فان المعنى الوحيد لها هو ان الثلاثي انطلق في مرحلة تحديد مجال النفوذ والصراع على التمدد على حساب الاخر.
ثلاثي لكل فرد منه تصور للحكم والفعل السياسي وكيفية ممارسة السلطة ومن هو صاحبها، وهي تصورات متناقضة ان تعلق الامر بين السلطة التنفيذية برأسيها وبين السلطة التشريعية التي تطمح حركة النهضة بالاساس الى ان تصبح لاعبا فعليا في المشهد وليس مجرد مجلس يدعم «صاحب السلطة» وهي هنا التنفيذية.
هذا الصراع لن يقف عند الخطابات والتلميحات او البحث عن افتكاك الاعتراف من الاخر، بل سيشهد في الفترة القادمة انتقالا للصدام المباشر.