طائفة يؤمن بأنه وإتباعه هم امل تونس ومخلصوها والمنقذون من مؤامرات داخلية وخارجية ، سعيد تكلم ليكشف انه مازال «مرشحا» لا «رئيسا» يدرك ان كلماته قد تعصف بالبلاد وتوقعها في المحظور .
منذ ان انتقل الرئيس الى قصر قرطاج في نهاية اكتوبر الفارط انتظر الكل ان يطلّ قيس سعيد رئيس الجمهورية ليعلن انه استوعب رسالة الـ2.8 مليون صوت التي منحته كرسي الحكم لا من اجل برنامجه ومشروعه السياسي وانما للصورة التي مثلها كأستاذ قانون دستوري من خارج الاحزاب لم تطله لوثة الفساد السياسي بعد.
انتظر الجميع ان يدرك سعيد ان خطابه الاصلي لم يقنع الكثير من التونسيين وان ما اقنعهم هو البحث عن طبقة سياسية جديدة وان لم تكن ملمة بكل متطلبات المرحلة فأنها لن تزيد الطين بلة، او لن تنجر كالبعض الى الهوامش وتغفل عن الاصل، والأصل هو معالجة ازمة اقتصادية واجتماعية وتغيير منوال تنمية بلغ حدوده القصوى اضافة الى قصور نظرة السياسيين وانقسامهم الى قبائل تتصارع على البقرة الهزيلة.
كان من المنتظر ان يطل الرجل بكلمة او بمبادرة يعلن فيها انه رئيس لكل التونسيين ويبدو ان ظننا قد خاب بعد ان تكلم الرجل اول امس، 17 ديسمبر الجاري من ولاية سيدي بوزيد، تكلم ليقسّم التونسيين الى زهور وأعداء، تكلم بلسان ايديولوجي عقائدي معلنا عن نفسه زعيما اوحد لجزء من التونسيين يمتلكون الحقيقة ضد قسم اخر وضعه في مرتبة العدو الخائن.
كل هذا كشفه الرجل في كلمة لم تتجاوز الدقائق المعدودات امام حشد من مواطني مدينة سيدي بوزيد تجمهروا حول المنصة التي اعتلاها قيس سعيد ليخطب في من حضر ويسمهم دون سواهم بخصال الوطنية ويعتبرهم انصاره ضد المتأمرين والدساسين.
كلمات حماسية لم تكن ولن تكون كلمات رئيس دولة ورجل سياسة، بل كلمات زعيم يريد ان يكتب تاريخا جديدا لتونس، وكتابة التاريخ تنطلق من اعادة صياغة المرويات الرسمية، وأول المرويات مروية الثورة التي صيغت على المستوى الرسمي بشكل يجعل لها تاريخين 17 ديسمبر و14 جانفي، الاول كشرارة لها والثاني كتتويج لما سبق من احداث.
هذه المروية التي احتفت بها تونس طوال سنواتها السابقة اعاد قيس سعيد صياغتها بكلمات من قبيل ان «17 ديسمبر هو عيد الثورة ويجب ان يكون يوم عطلة» ولكن لتحقيق ذلك وجب هدم المروية السابقة التي تجعل من يوم 14 جانفي ذا دلالة، والهدم كان بكلمات أعلن رئيس الدولة والقائد الاعلى للقوات المسلحة التونسية ان تاريخ 14 جانفي هو تاريخ «اجهاض الثورة» في مناسبة اولى لدى دردشة مع مستقبليه عند باب سيارته قبل ان يعدل في كلمته امام الجمهور ليكون تاريخ «محاولة اجهاض الثورة».
تحت الهتافات التي استبشرت بجعل 17 ديسمبر عيدا للثورة واصل الرئيس قيس سعيد استاذ القانون الدستوري المتقاعد كلماته الحماسية بشان 14 جانفي ومحاولات بعض ممن لم يحددهم جعله تاريخا لإجهاض ثورة «ابهرت العالم وباتت تدرس في الجامعات» ثورة شعب الهم بقية شعوب العالم ليتبعوا نهجه ويرددوا شعاراته وأولها «الشعب يريد».
«الشعب يريد» هي الكلمات التي تكررت في خطاب سعيد وقد اقترنت في كل مرة مع فكرة اخرى ، اولها ان الشعب يريد وسيحقق ما يريد في «ظل الشرعية الدستورية»، وما يطالب به الشعب هو الحرية والكرامة، وهي مطالب تعهد قيس سعيد بان يحققها «رغم المناورات والمؤامرات التي تحاك في الظلام».
مؤامرات المح رئيس الجمهورية انه يعلم من يحكوها ومن تستهدف، بل ان من يحوكونها معروفون بالاسم لدى «الشعب» ولماذا تحاك فهي من اجل عدم تحقيق مطالب «الشعب» والعبث به، هؤلاء «الواهمون» يفتعلون الازمات بشكل يومي، ازمات عطلت مؤسسات الدولة. يريد اصحابها ان يحملوا الرئيس المنتخب مسؤولية الفشل.
لكن سعيد وككل الزعماء يلجأ الى انصاره ليستعين بهم ضد اعداء «الشعب»، وهو ما اتاه الرجل الذي شدد على انه سيتحمل مع «الشعب»، وهنا الشعب هم انصار تصوره، المسؤولية وهم معا سيعاقبون من «يزيغ» عن مطالب الشعب، والعقاب جاء مطلقا، فن سيزيغ سيدفع الثمن غاليا.
هؤلاء الزائغين الاعداء المح الى انهم في السلطة ، وهنا قال سعيد ان السلطة يجب ان تكون في خدمة الشعب لا في خدمة « جهة اخرى سواء وراء الستار او البحار والصحاري»، هنا اضاف الرئيس صفة للزائغين وهي الاعداء الخونة المتأمرون مع اطراف داخلية واجنبية ولهم ارتباطات مشبوهة. هؤلاء ايضا تشملهم «اجهزة الإعلام التي قال الرئيس انها تقول الكثير عنه، وما تقوله المح الى انه خاطئ ومعاد لـ«الشعب» ولرئيسه، وهؤلاء ايضا سيهزمون وسيأتيهم الرد «مزلزلا».
كل هؤلاء من الاعداء فقط من التحق بركب قيس سعيد والشعب هم اصحاب «الحق» وهم من سينتصرون وسيعيدون كتابة التاريخ والمفاهيم السياسية، «الشعب» الذي يتحدث عنه سعيد هم «وروده» وأزهاره الذين سيتكاتفون معه لتحقيق النصر والارادة «رغم المكائد والمؤامرات التي تدبر في الغرف المغلقة».
هذا هو الخطاب الموعود الذي انتظره التونسيون من رئيسهم المنتخب منذ ثلاثة اشهر، وهو خطاب القي في 2019 وليس في 1930 حينما كان موسوليني يلهب حماس الايطالين بخطابته وكلماته الرنانة عن الاعداء والوطن والمؤامرات والانتصار وغيرها ن مفردات الخطاب الشوفيني.
خطاب سعيد الذي يطالب باعادة تحديد المفاهيم السياسية، ينتمى بكل مفرداته ومعجمه وهيكلته للفكر الشوفيني الشعبوي، الذي يظن انه ينتصر للشعب ضد نخب متآمرة على هذا الشعب بل هي عميلة لجهات اجنبية تحول دون «البعث»، والبعث هو نهوض الشعب التونسي وتصدره لمكانته العظيمة بين الامم.
خطاب سعيد امام المئات والالاف لم يكن مختلفا عن خطاب اي فاشي في عشرينيات وثلاثنيات القرن الماضي، خطاب اللون والواحد والحقيقة الواحدة اللتين يحتكرهما الزعيم واتباعه اما من يختلف عنهم فهو «خائن وعدو» وعليه ان يدفع الثمن غاليا.
قيس سعيد رئيس الجمهورية غفل عن ان خطابه أدى الى تقسيم التونسيين الى زهور واعداء هو نفخ في نار الفتنة وتشجيع غير مباشر لشق من انصاره على العنف المعنوي والمادي ضد المختلفين عنه ، تشجيع لا نتهم الرجل بانه يعنيه بشكل مباشر لكنه قام به، والمصيبة انه اتى ذلك دون ان يدرك انه اليوم رئيس وكل كلمة يقولها سينظر اليها على انها «تشريع» للقيام بأي فعل.
تحدث يوم 17 ديسمبر قيس سعيد المرشح للرئاسة وليس الرئيس المنتخب الذي تعهد بانه سيوحد التونسيين فقسمه مع اول خطاب مباشر له الى «وطنيين» و«خونة».