بُرهان الأمل: تونس في مفترق طرق

هناك حالة عاطفية يصعب معها التفكير، ولكن القلب يمكن له أن يفكر أيضا. هناك أمل ما، هناك قوة سالبة انزاحت من قلوب الناس

وجعلتهم يخرجون فرحا كما لم يفرحوا من قبل. هناك حالة مشهدية بكل المقاييس، هل صوتوا لأحلامهم في اللحظة الحاسمة؟ مع كل هذا الأمل هناك بلد في مفترق طرق.

ما الذي حدث؟
كل انتخابات الدنيا رسائل. والرسائل أكثر مما تُعدّ في استحقاق الرئاسة.
لا يمكن أن نستثني في كل ما حدث أن حالة عاطفية قد استبدت بالتونسيين أو بجزء هام منهم إثر الإعلان عن النتائج. ما كان عاطفيا ليس فوز مرشحهم فحسب، بل هو الفوز الساحق الذي تمت به الأشياء. حالة عاطفية شبيهة بحالات الحصول على الاستقلال وبحالات الثورات الكبرى أو بانتصارات الحروب أو بانتصارات كرة القدم عندما تكون انتصار وطن بأكمله. أ إلى هذا الحدّ كانت الأزمة كبيرة؟ وهل إلى هذا الحدّ كانت الرغبة في التغيير حالمة؟
أعتقد ذلك.

لم تكن المسألة أزمة « سيستام» كما يذهب الكثيرون إلى ذلك. الأزمة الحقيقية هي الشبكات التي عطلت « السيستام» واستفردت به. جعلته أسيرا لها، شبكات المصالح الاقتصادية، شبكات التهريب التي تسربت للمشهد السياسي وشبكات العلاقات الزبونية التي أصبحت تحدّد اختيارات الدولة وتوجهاتها، شبكات الدولة العميقة التي تريد استرجاع زمام الأمور. لم يعد « السيستام» يدير الدولة كما في كل الدول الديموقراطية. أمام وضوح «السيستام» المشتغل بقواعد معلومة وظاهرة بهناته ومشاكله هناك غموض الشبكات الذي جعلنا لا ندري إلى حدّ ما من يحكم وراء الأبواب الموصدة.

قد تكون نتائج الانتخابات الرئاسية بكل مفاعيلها انتصارا أوّليا ل» السيستام» على حساب الشبكات، هو استعادته لزمام الأمور في سياق معقد و صعب، و لكن المشوار طويل والمعركة في بدايتها.
كل انتخابات الدنيا تعطي مؤشرات حول الطلب الاجتماعي. ما هو هذا الطلب الاجتماعي بالتحديد؟ هناك طلب اجتماعي معهود في المناسبات الانتخابية يحوم حول الوضع الاقتصادي للمواطنين، حول قدرتهم الشرائية وحول البطالة والتشغيل وحول حسن إسداء الخدمات المختلفة. ولكن هناك أيضا طلب اجتماعي لتغيير منظومة القيم التي تدير المشهد

السياسي وتدير أيضا المشهد العام بكل تفاصيله. هي منظومة أخلاقية تعتمد على قيم الصرامة والعمل والاجتهاد والتجديد والمحاسبة ومقاومة الفساد والتواضع الإيجابي، كل هذه القيم وغيرها تصدرت مشهد الانتخابات وجعلت الشباب خصوصا ملتقطا لها وجاعلا منها بوصلته القادمة. هناك رغبة في استرجاع مرجعيات تعطي معنى للوجود وهي المرجعيات التي أبعدتها حسابات الربح والخسارة في السياسة اليومية من المشهد اليومي. الناس يبحثون وبشكل جاد عن شيء يُعيد لمؤسسات المرافقة بريقها وهي التي تعيش حالة من الوهن الدائم، إن تهاوي المؤسسات يُنذر بانتهاء العقد الاجتماعي الذي سرنا على بوصلته منذ المراحل الأولى من بناء الدولة الوطنية. هناك في انتصار قيس سعيد استرجاع للقيم التي بدأنا بها بناء دولة الاستقلال ولكن بمضمون مغاير وبشكل مختلف، و كأننا في لحظة تأسيسية فارقة.

عندما نلتفت إلى المترشح الذي فاز بالانتخابات الرئاسية والأفق الذي أتى منه وعندما نلتفت أيضا إلى ناخبيه من الشباب الطالبي ومن المثقفين من الطبقة الوسطى، نقف عند مسألة المدرسة والمنظومة التربوية برمّتها. الرئيس قادم من أفق جامعي، قادم من أفق التدريس ومن الطبقة الوسطى التي استفادت من التعليم العمومي. هو بذلك يجسد إلى حدّ كبير هذه المنظومة المدرسية بقيمها العديدة التي يتعلق بها التونسيون تعلقا يكاد يكون أسطوريا، وفي انتخابهم له هناك دعوة إلى إرجاع دور المدرّس ودور المدرسة في حماية منظومة قيمية مجتمعية مهترئة، وكأنهم بذلك يعيدون ترديد « كاد المعلم أن يكون رسولا». هؤلاء الناخبون يريدون حماية المدرسة وحماية المنظومة التربوية فوجدوا في الرئيس الذي انتخبوه إمكانية لاستعادة نموذج طالما فقدوه وهم يبحثون عن معنى جديد للمدرسة. ومن المدرسة يمكن الانتقال إلى المؤسسات الأخرى التي تحتاج إلى زخم قيميّ كي تستطيع تجاوز أزماتها. هناك إذا طلب اجتماعي يريد تأسيس حوكمة جديدة تقطع مع اللاّعقاب ومع فقدان المعنى. إن الذي دفع بثلاثة ملايين ناخب إلى صناديق الاقتراع من أجل قيس سعيد هو اعتقادهم الإيماني بأنه سيزيل عنهم حالة اللايقين التي استبدت بهم طيلة السنوات الماضية، وهي حالة لايقين لا يبدّدها ولا يبدّد الشكوك حولها سوى خطاب صارم، صادق، جادّ وتأسيسي وهو الشيء الذي نجح فيه الرئيس الفائز. الناس يبحثون عن الجديد، عن المثير وفي بعض الأحيان عن جرعة من اللاّمعقول الذي يخرجهم من روتين الخطابات المتكررة والفاقدة لكل أفق إبداعي والتي يعرفون جيدا ومسبقا زيفها.

خطاب النصر الذي ألقاه قيس سعيد إثر ظهور النتائج كان من طينة خطابات الاستقلال وخطابات حركات التحرر. كان خطابا تأسيسيا وكأننا أمام ثورة ثانية بكل الجوارح التي تحيل إلى أن صاحبها يتكلم وكأن به شيئا من النبوة التي لا تنطفئ لدى الزعماء وأصحاب القضايا الكبرى.
رئيس ذهب به الحلم بعيدا وذهب معه ناخبوه حاملين نفس الحلم. لا تهم في بعض الأحيان إكراهات الوقائع السياسية ومستلزماتها أمام حلم يريد أن يتحقق. سياسة بلا حلم هي سياسة بلا أخلاق، وهو أراد أن يضفي على السياسة الحلم والأخلاق معا. وبهذا وضعنا في مفترق طرق وربما هنا تكمن جدارته...
نحن أمام وضع استفتاء أكثر منه وضع انتخابات ونسبة المشاركة والنتائج التي حصل عليها الفائز تدلان على ذلك. هل هذا تمرين على صيغة الاستفتاء التي يمكن للرئيس أن يستنجد بها عندما يرى ضرورة لذلك؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115