للسنوات الخمس المقبلة، وفيها سيفصح الناخبون عن إختيارهم لمن يرونه أجدر بكرسي الرئاسة.
هذه الدورة الأولى يمكن أن تكون نظريا هي الوحيدة إذا حقق أحد المترشحين أغلبية تتجاوز الخمسين بالمائة من أصوات المقترعين، ولكن نظرا لكثرة المترشحين وتشتت الأصوات حتى في وسط العائلة السياسية الواحدة، فإنه من المحتمل، ألاّ يفوز أحد بالأغلبية المطلوبة الامر الّذي سيقتضي تنظيم دورة ثانية للفائزين الأولين.
اليوم سيركن الناخبون إذن لخلوة أولى مع ضمائرهم فيسترجعون تقييماتهم لكل مترشح، ليصرّحوا بإختيار الأقرب لقناعاتم والأقل خشية من التنكر لما وعد به.
وازع الإختيار الّذي يحظر في اللّحظة الحاسمة في الخلوة ، هو الّذي يكذّب ما يُخيّل لزعماء بعض الأحزاب ومؤيّديهم ، بكونهم يمتلكون أزرار التحكم في إرادة الناخبين ويعتقدون أنهم قادرون على مخاتلهم أو التغرير بهم.
إن قيمة الصوت المصرّح به لن تكون هيّنة، وخيارات الناخبين سيكون لها أثر بالغ على رسم مستقبل البلاد القريب والبعيد. والدروس الّتي أخذها الناخبون من المدّة النيابية السابقة وممّا سبقها، ومعايشتهم لمختلف تداعياتها الإجتماعية والإقتصادية، سيكون لها وقعها الكبير في الإختيار.
اليوم سيحكم الناخبون على مدى صحّة كل القراءات و التوجهات، الّتي بقيت لدى مختلف التشكلات الحزبية التي تراوح طيلة السنوات الخمس الماضية، بين مسارات إنكشفت لهم مخرجاتها على أرض الواقع.
لقد كشفت مختلف الأحداث الّتي عاشتها البلاد في السنوات الماضية، كما سبق لنا التأكيد على ذلك، أن للمجتمع التونسي خصوصيات لا تخضع للتصنيف المحنّط والقوالب الجاهزة.
هذه الحقيقة، جعلت البعض يغيّرون في خطاباتهم بانتهازية، لملامسة جديدة لحس التونسي العادي. هذا التونسي الّذي بدا متحرّرا من كل القوالب الجاهزة ، فتراه يتأقلم مع الواقع بطريقة خلاّقة ، لأنه لا ينخرط كليا في أي خيار مكبّل لإرادته، بل يترك لنفسه دائما المنافذ ، كي يجد طريقا للإنفلات كلّما ضاقت به السبل.
ذلك هو الواقع الّذي عايشه التونسيون، لذلك بدوا متحرّرين من الخوف الّذي تملّكهم لسنوات ، فكانوا على أهبة للتمرّد ، وأحيانا بشكل مبالغ فيه للإفلات من النمطية الّتي قد تفرض عليهم .
ولكن ما نخشاه اليوم أن تفعل التهرئة السياسية فعلها فيتسرّب الملل إلى الناخب، فيتغيّب، معتقدا أنه بهذا الفعل سيعاقب الجميع: الماسكون بالسلطة والفاعلون فيها والمتطلعون لمسكها والمتسبّبون في ما هم فيه.
هذا هو الخطأ القاتل، الّذي لا تستفيد منه إلاّ الفئات المنغلقة على ذاتها، والمعتقدة بكونها المالكة الوحيدة للحقيقة، وبكونها المؤهلة للحفاظ على خير الناس في الأرض دون أي طرف آخر.
الخطأ القاتل ان يتنصّل الناخب من واجبه في الاختيار الواعي، فينسحب في الوقت الحاسم ويترك مصيره يتقرّر دون أي فعل منه، ودون أن يساهم في تسطير مستقبله ومستقبل أولاده.
اليوم لا يقدّر صوت الناخب التونسي بثمن ، لذلك عليه أن يدلي به مهما كان الثمن ، وبالتالي ليس له أن يتهرّب من مسؤوليته تجاه مجتمعه، في فترة تأزمت فيها الأوضاع ومرشحة بأن تتأزّم أكثر.
بالأمس كان كل التونسيين مدعوين إلى ملازمة الصمت الإنتخابي، ولكن يكون كل الناخبين اليوم، مطالبين بأن يقطعوا الصمت ويصرّحوا بأصواتهم على ورقة الإقتراع لإختيار الشخص الّذي يرونه ممتلكا للمواصفات المطلوبة للرئيس المنتظر.
لا فائدة ترجى من الاستقالة، أو الإحتفاظ بالصوت، فكلاهما خيار عدمي يخرج الناخب من دائرة الفعل، ويجعله يتخلّى عن تحديد مصيره للغير، وكذك مصير هذه الجمهورية الّتي وضع التونسيون معالمها الأولى، بعناء، ولكن بإقتدار، لأنّهم برهنوا أنهم قادرون على تجاوز العقبات وتيسير شق طريق الديمقراطية الّذي أصرّت الأغلبية الفاعلة على سلوكه.
فاليوم، سيختلي الناخب بنفسه مرّة أخرى ليخرج عن صمته الإنتخابي لوضع العلامة السحرية المعبّرة عن صوته، في خانة من يراه أهلا لتولّي رئاسة الجمهورية. هذا الرّئيس الّذي لن يكون محدود الصلاحيات كما قيل، لأنّ الدستور يمنحه حوالي عشرين مهمّة تجعل مركزه في هرم السلطة مناسبا لمستلزمات حكم مستقر إذا توفرت لديه الإرادة الصادقة.
أن قرار الناخب المشاركة في العملية الانتخباية، هو وحده ،الّذي يقيم الدليل على إعماله لرأيه في جدوى ذلك، وإقتناعه بضرورة الاقتراع لممارسة حق له، ولأداء واجب محمول عليه تجاه المجتمع والدولة..
لذلك، من المهم أن تكون المشاركة في العملية الانتخابية مُكثّفة وعاكسة لتطلعات أوسع قاعدة للناخبين،لمنح شرعية شعبية أوسع للرئيس المنتظر، ولسد الباب أمام التكتلات الّتي تريد مصادرة خيارات الغائبين، لفرض توجهاتها علي الحاضرين والغائبين في نفس الوقت.
(*) إستعارة من قصيدة الصغير أولاد أحمد بقوله «إذا كنت شعبا عظيما فصوت لنفسك في الساعة الحاسمة.»