منبر: طارق الكحلاوي يرد على مبروك كورشيد: ضياع مبدأ الحرية وسط ملهاة الصراع الناصري-الإخواني

اطلعت على رد الاستاذ مبروك كورشيد («المغرب» الجمعة 19 فيفري) وهو نص مقتضب نشرته يوم وفاة الاستاذ محمد حسنين هيكل. وحتى اتفاعل بشكل منهجي مع ما ورد في المقال سأقوم بدءا بعرض ما كتبته حيث تعرض لبعض التحريف من الاستاذ كورشيد.

حيث قلت: «توفي هيكل... التقيت الرجل مرة واحدة في مكتبه في الجيزة في منتصف جويلية 2013 والقاهرة تعيش اجواء الانقلاب العسكري الدموي الذي كان احد اهم عرابيه... كان لقاءا طويلا وحاولنا خلاله بتكليف من الرئيس المرزوقي نقل افكار حول المصالحة واستكشاف مدى استعداد الطرفين لها... امتثل يومها امامي بلا مساحيق بشخصية الارستقراطي الذي يعتبر ظاهرة الاخوان ظاهرة فلاحين ليسوا مؤهلين للحكم... وان افضل طريقة لانهاء اعتصام رابعة هو «الجرب»... كان موقفه رافضا بحزم لاي مصالحة... وقبل ان ينتهي اللقاء قال لي «تعرف انا باعتبر نفسي بورقيبي». رحم الله هيكل وغفر له.»

وكما هو واضح هنا كانت المهمة التي كلفنا بها الدكتور المرزوقي متعلقة بـ«المصالحة» السياسية وليس بـ»اعادة الشرعية»، مثلما قال مبروك كورشيد وما يعنيه ذلك من تبني اعمى لوجهة نظر «الاخوان». كان رأينا ان القضية السياسية هي تفادي التشريع للانقلاب العسكري القائم وايجاد مسار سياسي بحت يسمح من جهة بتجديد الشرعية الديمقراطية المتأزمة لكن على قاعدة الصناديق وبدون اقصاء.

سأكون في المقابل اكثر امانة في نقل كلام الاستاذ كورشيد. رده كان في نقطتين. أولا، صادق على كلام هيكل واعتبر ان هناك فئتين مختلفتين في المجتمع المصري أحدها «الفلاحين» والثانية «الصعايدة»، وأن الفئة الاولى تعرف بـ»الذل» وقابلية الهيمنة (هكذا!)، وهو ما ينطبق في رأيه على تنظيم «الاخوان»، في حين ان الثانية ترفض ذلك. ثانيا، ان اعتبار هيكل نفسه «بورقيبيا» يأتي في سياق أنه «ينتمي الى مشروع تحرر انتمى اليه بورقيبة وكان أحد علاماته البارزة».

بالنسبة للنقطة الاولى لن نجد اي دارس جدي للمجتمع المصري يقسم بين «الصعايدة» و»الفلاحين». يوجد في المجال «الصعيدي» خصوصيات، تتعلق بالثقافة القبلية القوية، لكن في قاعدته الاقتصادية يبقى مجتمع «فلاحين». فالفصل الجذري بين «الفلاحين» والصعايدة» فصل وهمي وليس معتمدا في الدراسات العلمية الجدية للمجتمع المصري عبر تاريخه. بالاضافة الى ذلك فإن وسم «الفلاحين» بهذا الشكل التعميمي بأنهم يستسيغون الذل لا يسقط فقط في تحقير ملايين المصريين بل يجانب ابسط التحليلات الميدانية العلمية. ويذكر الحقيقة بالطروحات الاستشراقية الكولنيالية في منطقتنا العربية خاصة من قبل الرحالة الاوروبيين والكتاب المنظرين للاستعمار حيث كانوا ينظرون لمجتمعاتنا، التي كانت فلاحية بالاساس، على انها مجتمعات خانعة لا تدرك مفهوم الزمن ولا يمكن لها ان تتطور.

والحقيقة من الغريب ان يكرر من ينتمي الى التيار العروبي الذي قام اساسا في سياق مواجهة التجربة الاستعمارية مقولات استئصالية عنصرية كانت لا ترى في الوجود الغربي الا نقيضا لوجود العرب والمسلمين. كما من الغريب ايضا ان يعتبر كورشيد الذي هاجم بحماس بورقيبة على خلفية اغتيال الشهيد صالح بن يوسف، ورفع بصمته كمحامي قضايا ضد بورقيبة ونظامه الامني (بما في ذلك الرئيس الحالي قائد السبسي)، وكل ذلك على خلفية خطاب يصل حد اعتبار موقف بورقيبة «خيانة» مقارنة بتمسك انصار صالح بن يوسف بالسلاح خلال الصراع البورقيبي-اليوسفي (أنظر مثلا تصريحات مبروك كورشيد المنشورة في الصحف في اطار اجتماع في منطقة «المالحة» في معتمدية «الصخيرة» 4 ماي 2013).

وهنا الحقيقة يكمن لبس موقف كورشيد وعدد واسع من انصار التيار العروبي في تونس، حيث لا يبدون متحمسين لوصف واقع الانقلاب العسكري كما هو ويصرون على الخلط بين وجود واقع لغضب وتذمر شعبي حقيقي من «الاخوان» وواقعة الانقلاب العسكري التي تمت تحديدا في 3 جويلية 2013، بوضع الرئيس انذاك مرسي في السجن بقرار من وزير الدفاع السيسي وعودة المجلس العسكري بقيادة الاخير للحكم خلف شخصيات شغلت واجهة اشبه بالديكور. والان رغم مرور كل هذه السنوات والانكشاف المريع للوجه الفاشي المتوحش لنظام السيسي والذي يصل حدود الكوميديا السوداء، حيث التلفيق الروتيني للقضايا مثل الحكم مؤخرا على طفل الاربع سنوات بالسجن المؤبد، فإنه لا يزال هناك تردد في ادانة الانقلاب العسكري وجرائمه المتواصلة.

لكني لست في باب الشخصنة هنا والموضوع لا يتعلق بالاستاذ كورشيد حصرا. بل يتعلق أيضا بهيكل وبعدد من انصار التيار العروبي في تونس وخارجها حيث تغيب بوصلة الحرية والديمقراطية عندما يتعلق الامر بالعودة الى نقاشات وصراعات الستينات بين التيارين الناصري والاخوان. وهذا ينطبق بالمناسبة ايضا على عدد من أنصار التيار الاسلامي الذين يقعون في ذات المحظور. واخرها ما قاله «الداعية» وجدي غنيم بمناسبة وفاة هيكل حيث اعاد تكفيره والتهجم عليه بكل الصفات والالقاب. حيث يبدو هناك استعدادا دائما لـ«التكفير» المتبادل، الاول على قاعدة «وطنية عربية» والثاني على قاعدة «دينية»، خاصة اذ تم مس أصنام وشخصيات شبه مقدسة لدى الطرفين.

ورغم ان الطرفين مستهدفان من قوى كبرى ليست مرتاحة لقوى ذات سند شعبي محلي في منطقة استراتيجية ومليئة بالثروات هي المنطقة العربية لايزال التياران العروبي والاسلامي في صراع ثأري اشبه بصراعات القبائل على الرغم من تداولهما في الهيمنة على اكثر من إن نصف قرن من السياسة في المجال العربي وعلى الرغم من تكرر الدروس حول ملهاة الصراع. ورغم محاولات التخفيف من اثر هذا الصراع في أطر من نوع «المؤتمر الاسلامي القومي» منذ التسعينات الا ان التطورات التي حصلت في سياق «الربيع العربي» وخاصة الوضع في سوريا اعاد تفجير الاحقاد القديمة.

لا يمكن النظر الى هيكل من باب «إما أبيض أو أسود». الرجل شخصية معقدة. ومثلما كتبت منذ اسبوع فإن تورط هيكل في حقبة السيسي ستجعل ميراثه ملطخا بلا شك. قرأت للرجل وتعلقت بكل ما كتبه حول الفترة الناصرية تحديدا. وليس هناك شك أن وجود هيكل في خضـم التجربة الناصرية منحه الكثير من الألق. فرغم استبداد جمال عبد ناصر، إلا أنه دفع بسياسات وطنية خارجيا واقتصاديا واجتماعيا. يبقى أنه بعد أكثر من خمسين سنة من تجارب الأنظمة العربية ما بعد الكولنيالية تبين بوضوح أنه لا يمكن حماية الاستقلال الوطني إلا بديمقراطية حقيقية ترسخ عمليا وفعليا معنى سيادة الشعب. فلا وطنية دون ديمقراطية. وبدون ديمقراطية فإن الضحية هي ارادة الامة بجميع اجنحتها بما في ذلك العروبية والاسلامية، واعني هنا حصرا التي تؤمن بالديمقراطية.

السيسي -في المقابل- مثل أسوأ أنواع الاستبداد في السياق المصري. بدا كأنه التجسيم الأكثر كاريكاتورية لها، من خلال سياسات فاشية تغرق في الدم بلا حدود. نوع من «التكفيرية» المتخفية تحت «الوطنية». ويمثل خضوعا غير مسبوق خاصة في علاقة بالسياسة الاسرائيلية، وحصار قطاع غزة تحديدا وصل حد تنفيذ طلبات اسرائيلية تجنب تنفيذها حتى نظام مبارك. وللأسف ختم محمد حسنين هيكل حياته بدعم نظام لا يستحق الدعم.

طارق الكحلاوي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115