أن يقول الوزير؟ يقول الوزير ويقرّ أنّ وزارته والبلاد في حاجة الى المزيد من الأمنيين وأنّ الانتدابات سوف تدعّم الأمن وهو اليوم مضطرب، مختلّ. كأنّي بالوزير يقول أيضا انّ هذه الانتدابات سوف تضع حدّا لما نحياه، منذ الثورة، من اضطراب ومن خلل... الوزير الجديد محقّ في ما يقول ضمنيّا. في تونس اليوم انفلات اجتماعيّ كبير. منذ الثورة، لم تتمكّن الداخليّة من السيطرة، من وضع حدّ لما نرى من خروق ومن مروق...
هل يعتقد الوزير حقّا أنّه بما ينوي من انتداب سوف يتمكّن، سوف يضمن الأمن؟ لا أعتقد. لن تقدر الداخليّة على شدّ البلاد ولا على تجاوز ما نحيا من فيض. هذه انتدابات الاضافيّة لن تغيّر شيئا. بل لعلّها ستزيد الأمن انفلاتا والوضع سوءا...
كلّ عام والداخليّة تنتدب. كلّ عام وآلاف من الأمنيين يدخلون الوزارة ويلبسون الزيّ ويملؤون الدنيا. لكن دون نفع. في ما أرى، لم يتحسّن أداء قوّات الأمن. في ما أعتقد، ازداد حال البلاد اضطرابا. قل هو لم يتغيّر. في تونس، هناك دوما، هرج وانفلات وفوضى..
القضيّة، سيدي الوزير، ليست في الأعداد الوفيرة ولا هي في المعدّات التي اشتريت. القضيّة ليست في الزيادة في الأجور ولا في الترقيّات وفي الأمن جميعا، توزّع الترقيّات بلا موجب. بلا حقّ... القضيّة، سيدي الوزير، تكمن في سوء التصرّف، أي العجز عن التسيير وفي ما كان من لخبطة في التنظيم وما كان من نقص في التكوين.
لا تحسن وزارة الداخليّة التصرّف في ما لها من أدوات انتاج. لا تعرف الوزارة كيف التحكّم في ما لها من عتاد وبشر. الزيادة في أعداد العاملين ستزيد في التسيّب، في الاخلالات والفوضى. التسيير يلزمه حذق وتبيّن وهي مهارة بالتعلّم تبنى. ما كانت الأقدميّة في الوظيف ولا الشعر الأبيض ولا السنين في الادارة تكفي لتدبير القيادة الجيّدة، لحسن التسيير. التصرّف في رجال الأمن ونسائه، كالتسيير في التنظيمات، يلزمه تدرّب وتعلّم وخصال معيّنة.
كذلك الأمر في التنظيم. ليس التنظيم ذاك الذي ورثته الوزارة واختبرته منذ سنين ولّت. انتهى ذاك التنظيم مع ذاك الزمن. اليوم، لنا ارهاب لا عهد لنا به واضطرابات تتجدّد لم نر مثلها من قبل وهناك تهريب وعصابات لها قوّة وعتاد... كلّ هذا جديد، طارئ لم نعهده. كلّ هذا يدعو وزارة الداخليّة الى تغيير الأطر، الى اعادة النظر في النظم. يجب اعادة ترتيب البيت. نفض ما تراكم من غبار وتسيّب... التنظيم هو علم يدرك. ليس هو بموهبة تعطى. يجب على الوزارة تعلّم سبل التنظيم وادراك أدوات الربط والتنسيق والجمع.
أمّا الركن الثالث فهو التكوين. حين أنظر في ما يأتيه بعض رجال الأمن من فعل. حين أسمع ما يقولون من قول وما كان لهم من منطق، أعجب من هؤلاء وأحسبني أحيانا أرى عنترة أو طرفة. للبوليس، الكثير منهم، فكر أكله الزمن وسلوكيّات فيها، أحيانا، عنجهيّة وغلظة. الكثير من رجال الأمن ليسوا من العصر ولا هم يدركون حقيقة ما لهم من وظيف وما كان لهم من مهمّة... يجب عصرنة الشرطة. كلّ الشرطة، قاعدة وقمّة. يجب تكوينهم بصفة مستمرّة...
لست من المطّلعين على ما يجري في وزارة الداخليّة من شؤون والداخليّة ظلّت كما كانت غرفة سوداء مظلمة. أعتقد، أن الوزارة مدعوّة الى التفتّح على الدنيا، الى الكشف عمّا فيها من جوانب ضعف وقوّة، الى ربط الصلات، الى الاستعانة بالكفاءات، الى سماع الأطراف المختلفة. لن تقدر الداخلية على المضيّ، على تجاوز الوهن، ان هي غلّقت الأبواب وظلّت في تفرّد، في خشية. الوزارة كالأفراد، ليمسّها التطوّر، يجب أن تتفتّح. أن تصارح النفس. أن تنتقد النفس. أن تمدّ اليد وتطلب العون والمعرفة...
لو خصّصت أموال الانتدابات الجديدة وهي المقدّرة بنحو 100 مليون دينار سنويّا بين أجور وخدمات الى التكوين الجدّي والى تدريب الأمنيين على أدوات العصر والاعلاميّة وغير ذلك من العلوم الأخرى لاستطاعت وزارة الداخليّة القضاء على الارهاب والتهريب وعلى كلّ من شدّه صلف وغلوّ وصعلكة...
أن تنشر المزيد من رجال الامن في البلاد لن ينفع الأمن ولا البلاد بل سوف يزيد الأمن خللا والبلاد اضطرابا. أحيانا، نشر البوليس في الأرض يزيد الفساد في الأرض... مؤخّرا، في المرسى، عون الحرس الوطني يشهر سلاحه في وجه زائر ليبي. يروّعه. يفتكّ ماله ومتاعه. هذا العون انتدبته الداخليّة للسهر على الأمن. ها هو ينقلب لصّا. ها هو يرهب الخلق... هذه الحادثة ليست منفردة. مثلها اليوم، في البلاد، يتكرّر.