والواقع فإن مسألة التعريف بالمفاهيم والمصطلحات القانونية، تعد معضلة في تونس، وقد تُركت لاجتهادات فلاسفة القانون وأساتذته ولفقه القضاء، ولم يقع تدارك الأمر إلاّ حديثا بعد أن كثرت التفسيرات والتأويلات والقراءات حتى في المعاهدات والإتفاقيات والقرارات الأممية والدولية، بعد أن أصبح مدلول الكلمات والتسميات ومعانيها نطاقا للجدل ومهربا من التنفيذ والتطبيق.
لذلك أصبحنا نشهد في القوانين الحديثة فصولا تمهيدية تعرف المصطلحات والمفاهيم وتحدّد الدلالات في محاولة لتضييق التأويل وتيسير التطبيق.
هذا التقديم بدا لي ضروريا لتناول الجدل الحاصل اليوم حول «الفوترة» أو «مذكرة الأتعاب» بخصوص الأداء على القيمة المضافة، التي جاء بها القانون عدد 61 لسنة 1988 المؤرخ في 2 جوان 1988 وصدرت عدّة نصوص أخرى متلاحقة بخصوص مجال التطبيق وغيرها من المسائل ذات الصلة.
وكما كان الحال في أغلب التشريعات التونسية لم يتضمن هذا القانون تعريفا دقيقا وواضحا لهذه الضريبة بل اكتفى المشرّع ببيان ميدان التطبيق وتعريف الخاضعين لهذا الأداء ونسبه، لذلك كان التطبيق ضبابيا خاصة بالنسبة للخدمات التي يسديها بعض أصحاب المهن الحرّة التي لم تعرّف هي أخرى كما يجب ولم تصنّف بالكيفية الّتي يقتضيها مجال نشاط كل مهنة.
من هنا توسعت الاجتهادات والتطبيقات وأصبحت هذه الضريبة توظّف أساسا على الأعمال والأنشطة إنطلاقا من التشريعات المنطبقة في الأنظمة المقارنة التي نشأت فيها هذه المؤسّسة التشريعية.
فهذه الضريبة كما يعرفّها فقهاء القانون هي ضريبة غير مباشرة ظهرت لأوّل مرّة في فرنسا على يد الفرنسي موريس لوريه maurice Lauré سنة 1954 قبل أن يعمّم لاحقا على دول الإتحاد الأوروبي، وكان المنطلق أن تفرض ضريبة على فارق سعر التكلفة وسعر بيع السلع، ولكن تتخذ أشكالا تختلف باختلاف موضوعها. قد يكون التعريف العام والأشمل للقيمة المضافة هو الذي يعتبرها «الثروة التي يضيفها الفرد أو المؤسسة على سلعة أو خدمة جراء مزاولة نشاط اقتصادي معين بحيث تصبح قيمة السلعة أو الخدمة الجديدة مختلفة عن سابقتها.»
في هذا الإطار يجدر التفريق بين القيمة المضافة والضريبة الموظّفة عليها. فالأولى تعني «ثمن البيع يُطرحُ منه كلفة الشراء أو كلفة الإنتاج،» أمّا الثانية فيُقصد بها «الرسوم المفروضة على رقم االمعاملات وهي ضريبة تفرض على جميع الأموال والخدمات المستهلكة محلية الصنع كانت أم مستوردة».
حول هذه المسألة المركبة يحصل الجدل الذي نحن بصدده هذه الأيام بعد أن جاء الفصل 22 من قانون المالية لسنة 2016 ليُلزم أصحاب المهن الحرّة باعتماد آلية الفوترة وتسليط عقوبات صارمة على المخالفين، وهو ما أثار حفيظة أصحاب هذه المهن وفي طليعتها الأطباء والمحامون.
إن أصحاب المهن الحرّة قبلوا الإذعان للمبدأ العام المتعلّق بالأداء على القيمة المضافة بخصوص الخدمات التي يسدونها، مع وعيهم بأنهم يتولون ذلك مساهمة في أعباء السلطة العامّة ويتحملونها بدل أشخاص لا يدلون بها، على معنى قول بعض الفقهاء الذين يرون أن هذه الضريبة «تتميز بخاصية ممنوحة للسلطة العامة، إذ تُدفعُ من طرف أشخاص يعلمون جيدا بأنهم لا يتحملونها، بل يتحملها أشخاص لا يدلون بها.»
إذن أصحاب المهن الحرّة لا يرفضون أداء ما عليهم كما يؤكّدون، بل يريدون ضبط الأمور بمزيد من الدقّة والعدالة. وإنّما يؤكّد المحامون مثلا أن الدّفاع عن حقوق شخص في قضية جزائية يلجأ لهم خوفا من السجن، أو أن الأطباء الذين يؤدّون واجب معالجة مريض، ليست من الخدمات التي يمكن تصنيفها كسلعة أو عمل تجاري يُنشئُ قيمة مضافة، لذلك يرون أن المشرّع حرم أصحاب المهن الحرّة من عدّة حقوق عند كراء المحلات التي يتسوّغونها من حق البقاء مثلا ولم يضف عليها خاصيات المحلات التجارية بالرغم أن لهم سمعة وحرفاء.
ولكن ما أثار تبرّم أصحاب هذه المهن، إضافة أعباء «إدارية» جديدة، خاصّة عند مزاولة النشاط بصفة فردية وترتبط خدماتهم بخاصيات تختلف عن أنشطة وأعمال الشركات الخاصّة أو التجمعات المهنية المنظمة.
فخاصيات العمل المنفرد، تتمثّل من ناحية في متطلبات الخدمة في حد ذاتها، التي تخضع لمواقيت محدّدة، ولطبيعة الخدمات التي تشمل النصح والمتابعة والاستشارة والمراقبة وغيرها من العناصر، ومن ناحية أخرى في قبض الأتعاب، وأحيانا التدخل أو إسداء الخدمة دون مقابل لإعتبارات مختلفة.
ولو أن الأمر يبدو بسيطا، فإن قبض الأتعاب مثلا بالنسبة لأطباء الأسنان أو أطباء بعض الاختصاصات الأخرى المرتبطة بمدّة معيّنة وبنظام الحصص، يصعب فوترته في وقت محدّد. وكذلك الأمر بالنسبة للمحامي الذي قد تمتد القضية الّتي يباشرها، على سنوات أو تتفرّع فيها الخدمات ويصعب أحيانا التمييز فيها بين الأتعاب والمصاريف خاصة بالنسبة للأفراد من عامّة الناس، ويتهرب فيها الحرفاء من خلاص الأتعاب. لذلك غلبت على الممارسة التقدير الجزافي لكل الأعمال دون أي تفصيل.
هذا التفصيل يعتبره أصحاب المهن الحرّة عبئا جديدا وإهدارا للوقت، فضلا على أنّه يشكّل إجراءا قد لا يغيّر شيئا من الغاية من وضعه.
فإذا كانت الغاية مقاومة التهرّب، أو مزيد تحميل أصحاب المهن الحرّة مساهمة أهم في مداخيل الدّولة لمجابهة عجز ما، فإنه يمكن البحث عن إجراء مبسّط يتمُّ إعتماده بعد تفصيل الأنشطة التي تكون فيها عناصر القيمة المضافة أكثر وضوحا، استنادا إلى نوعية الخدمة أو التدخل كما هو الحال بخصوص تفصيل الأنشطة التجارية أو توريد السلع والمعدّات.
ومثل ذلك بالنسبة للأطباء عمليات التجميل، أو أنشطة التمسيد وغيرها من التدخلات التي تقتضي استعمال تجهيزات خاصّة، التي تختلفُ عن التدخلات الطبية الضرورية الاستعجالية أو العادية.
وبالنسبة للمحامين، قد يتطلّب الأمر التفريق بين القضايا الجزائية وبقية أعمال المحامين المتّصلة بإنماء الثروة أو المساس منها مثل العقود الناقلة للملكية أو العقود التجارية أو غيرها من المجالات التي تبرز فيها عناصر القيمة أو الثروة.
إن معالجة هذا الموضوع إذا برزت الجدوى والضرورة من الحسم فيه، يقتضي معالجة الجباية عموما بصفة جادّة وإعادة النظر في العديد من المواضيع والمقاييس لتحقيق العدالة الجبائية على قواعد علمية وواقعية والعمل على تبسيط الإجراءات بإحداث معاليم قارة بواسطة الطوابع الجبائية أو الرسوم التي يسهل استعمالها والتي تتطلبّها كل خدمة فعلية بعيدا عن الحيف أو التسرّع الذي ثبت في أكثر من مجال أن أساء دون أن ينفع.