وأهداف قد يشرحها هو لاحقا أو تشرحها التطورات، في الاثناء يمكن القول إن مرحلة فرض التابعية على النهضة قد انطلقت.
أحيانا لكي تفهم أسباب وأهداف خيارات سياسية لا يجب عليك أن تغفل عن رصد اول رد فعل على الخيار، فهو الأنسب لشرح الكثير، مثال ذلك ما أتته حركة النهضة ساعات بعد نشر حوار مطول لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في صحيفة «الصحافة اليوم» هاجم فيه الحركة مباشرة.
فالحركة وعلى لسان رئيسها أعلنت انها ستصادق على التحوير الوزاري، بل وانها ستصادق على قانون المصالحة، وهو مبادرة تقدم بها رئيس الجمهورية، بل انها جددت الحديث عن دعمها لمسار التوافق الوطني وتمسكها به، بل أنها ثمنت «حرص رئيس الجمهورية على تحقيق المصالحة الشاملة وترسيخ الوحدة الوطنية بين التونسيين» في أول بيان يصدر عنها عقب الحوار.
ردّ فعل حركة النهضة التي تلقت الكثير من الرسائل المعلنة والمشفرة من قبل رئاسة الجمهورية في اقل من شهرين، اختارت ان تواجهها برسائل تحدي معلنة، اولها كانت متعلقة بالتحوير الوزاري الذي أرادت له في بيان رسمي أن يقتصر على سدّ الشغورات، كما أنها حرصت على الحيلولة دون تعيين لطفي ابراهم آمر الحرس الوطني في منصب وزير الداخلية، وقبل هذا ردها على مبادرة المساواة التي اقترحها رئيس الجمهورية بطرح مبادرة الأوقاف.
تحدي النهضة ومحاولة التقدم بخطوات متسارعة إلى صدارة المشهد - بعد ان خيرت البقاء في المركز الثاني تتحسس خطواتها خلف رئيس الجمهورية طوال نصف المدة النيابية المنقضي، عبرت عنه بإعلان عن جملة من المبادرات لم تحسن الوقوف عند معاني رفضها من قبل رئيس الجمهورية الذي لم يسبق له منذ صدور نتائج انتخابات 2014 ان وجه انتقادا شديدا للحركة كالذي وجهه في حواره الأخير.
النهضة التي اطل رئيسها معلنا عن طموحه في لعب دور متقدم خلال السنتين القادمتين استهله باشتراط إعلان الشاهد عدم ترشحه لانتخابات 2019 مقابل دعم غير مشروط من حركته، والبروز كمن يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية 2019 إضافة إلى إعلانه ان الحركة مهتمة بالتقارب مع العائلة الدستورية، التي يمثل نداء تونس جزءا منها، أي ان الحركة ورئيسها باتوا يعتبرون ان نداء تونس فقد أهميته لهم بفقدانه لقدرته على أداء وظيفته وهي توفير مظلة حامية من تقلبات إقليمية وداخلية.
النداء الذي أنهك من صراعاته الداخلية وفقد الكثير من كوادره ونوابه وقواعده مما جعل النهضة عمليا هي الحزب البرلماني الأقوى كما أنها الأكثر استعدادا وانتشارا ميدانيا، لكن هذا لم تعبر عنه النهضة بشكل صريح الا منذ أكثر من شهرين، حينما باتت تذكر أنها الحزب صاحب الكتلة الأولى في المجلس وفي خيار مد اليد للأحزاب الدستورية التجمعية للتحالف معها.
تحالف أرادت له النهضة ان يكون ورقة قوية بيدها تتخلص بها نهائيا من حاجتها للاحتماء بنداء تونس ورئاسة الجمهورية، وهو ما تلقفه رئيس الجمهورية الذي وجه إنذارا مبطنا للنهضة في خطابه المباشر للشعب التونسي يوم 10 ماي الفارط حرص فيه على القول بشكل غير صريح ومباشر انه صاحب القرار الأول والأخير وان لا احد له ان يزاحمه في سلطته، لكن الحركة تعاطت معه على انه رصاصة طائشة لا تستهدفها.
يومها لم يكن واضحا ان العلاقة بين الرئيس و»الشيخ» في طورها إلى التغيّر او فقدان حميميتها وصلابتها، فالحركة ظلت وفية لخيار عدم الخروج على الصف بشكل صريح إلى غاية خروج «الشيخ» في حوار بقناة نسمة بـ»لوك» جديد وطموح سياسي كبير. بعد ان اطمأن الى ان علاقته بالرئيس متينة وتسمح له بأن يتقدم خطوات عملاقة الى الصف الاول وان يكون جنبا الى جنب معه.
طموح اتسع وعبر عن نفسه باطراد خلال الشهرين الفارطين، في ظل تغيير المعادلة الإقليمية ومنها صراع دول مجلس التعاون الخليجي، الذي مرت منه الحركة بسلام واساسا دون انعكاسات سلبية على علاقتها بالرئيس، فظنت ان هذا يؤكد لها قراءتها الداخلية بان الرئيس بات محاصرا وضعيفا.
قراءة لم تسمح للحركة بفهم الرد الرسمي لرئيس الدولة على اشتراط راشد الغنوشي عدم ترشح الشاهد لدعمه، فالرئاسة عارضت الشرك واعتبرت انه انتهاك لحق دستوري بل واعتبرت ان المبررات المقدمة هي محاولة اسقاط غير سليمة.
هنا لم تمسك النهضة بالخيط وتتراجع خطوة خاصة وانه بعد أسابيع قليلة وتحديدا في 13 أوت أطل الرئيس وقدم مقترح المساواة الذي قابلته هي بمقترح الأوقاف، كرسالة مباشرة بانها سيدة الموقف وصاحبة القرار فيه، وان المتغير الإقليمي لم يعد يشكل خطرا عليها فقد تجاوزت عاصفتين «وصول ترامب» وأزمة الخليج بسلاسة وامن.
تحد لم تستسغه رئاسة الجمهورية التي باتت تتلقى رسائل مباشرة من النهضة تعلن ذلك رغم الحفاظ على خطاب التوافق والمحبة، ليكون موقف النهضة في مرحلة التشاور بشأن التحوير، الذي كان للرئيس دور كبير فيه، النقطة التي أفاضت الكأس ودفعت بالرئيس للرد. فالنهضة التي رفضت ان يكون التحوير معمقا وان يعين وزير داخلية لا ترضى عنه، تدرك انها تعارض خيارات اتخذها الرئيس وزكاها، بل أنها حرصت على رد الضربات التي تلقتها خلال شهر بضربة مباشرة له/ أي الرئيس.
هنا تغيرت المعطيات الداخلية ليكون رد الرئاسة واضحا دون لبس «قد أخطأت» في التوافق معكم وسيقع تصويب الخطأ. مباشرة اثر هذا الردّ الذي حمل رسالة صريحة بان النهضة هي من يقف في موقع ضعف وليست الرئاسة، وان عدم فهم هذا سيكلفها باهظا.
وما أرادت الرئاسة ان تفهمه النهضة هو أن الخروج عن الصف غير مقبول وان المناخ السياسي لم يتغير عما كان عليه في 2014، أي حجم الحركة وقتها لم يتغير وان الدور الذي تريد ان تلعبه ليست مؤهلة له، أي ان الرئاسة ارادت بشكل صريح ان تقوم بتحجيم دورها وان تضغط عليها لتعود الى المربع الاول، أي الطاعة او التابعية كما يصفه قادة نهضاويون.
قادة يرون في تصريح رئيس الدولة إعلانا صريحا عما في نفسه وكتمه منذ 2014، فهو بالنسبة لهم لم يقترب منهم الى احتوائهم وإضعافهم قبل توجيه ضربة إليهم، مقابل هذا يرى جزء من الفاعلين ان الموقف الجديد هو إعادة اصطفاف من الرئيس له دوافع انتخابية خاصة وانه خسر شعبيته في صفوف ناخبيه.