لم تمر الذكرى الـ61 للاستقلال دون ان تعلن حزمة من الأحزاب السياسية التونسية عن تهنئتها للشعب التونسي بالمناسبة، بيانات التهنئة وإقامة تظاهرات جماهيرية. وسواء في بياناتها أم في تظاهراتها وجدت الأحزاب، وخاصة حركة النهضة ونداء تونس وحركة مشروع تونس، فرصة للحديث عن ان الوقت حان للمصالحة الوطنية.
مصالحة قالت عنها النهضة في بيانها انه يجب «تعزيز الوحدة الوطنية وإعادة تجميع كل أبناء العائلة التونسية الكبرى وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة على قاعدتي المواطنة والعدالة الانتقالية». فيما اعتبرت حركة نداء تونس في بيانها أنها «ستمضي على طريق التعبئة الوطنية الشاملة... من اجل إنجاح مشروع المصالحة ووقف الاستهداف الرمزي والمادي لبناة دولة الاستقلال مشيرة في البيان أن نساء ورجال بناة دولة الاستقلال يواجهون حملة هرسلة واستهداف تحت مسميات المحاسبة التي تعتبرها الحركة قد» تحولت إلى محاسبة لتاريخ تونس خارج إطار الموضوعية والإنصاف». من جانبه ومن مدينة القيروان تحدث الأمين العام لحركة مشروع تونس محسن مرزوق عن المصالحة الوطنية الشاملة وضرورة إنهاء حالة الابتزاز السياسي الممارسة على جزء من التونسيين.
في الظاهر يلتقي ثلاثتهم نداء تونس وحركة النهضة وحركة مشروع تونس، عند دعوة إقرار المصالحة الوطنية، لكن كل منهم له تصور للمصالحة وشروطها، ومن ينتفع بها وفي أي مسار تندرج.
فحركة النهضة التي اشترطت ان تكون قاعدة المصالحة» المواطنة ومسار العدالة الانتقالية» تنطلق من ا ن المصالحة باتت ضرورة وطنية وفق تصريح نور الدين عرباوي رئيس المكتب السياسي للحركة، الذي يضيف ان حركة النهضة اتخذت هذا الخيار السياسي بهدف إنهاء حالة الانقسام والتجاذب التي تعيش عليها تونس.
فالمصالحة لدى حركة النهضة هي خطوة ضرورية للمصالحة بين القديم والجديد، وتوحيدهم تحت طائلة الدستور الذي تعتبره خيمة تجمع كل التونسيين، ولا تقسمهم على قاعدة قديم او جديد، وتسمح للبلاد بتجاوز أضغان الماضي وأحقاده.
لكن الحركة وفي تصورها للمصالحة تسوق جملة من الشروط وهي انّ من اخطأ جزائيا عليه تحمل نتائج أخطائه في حق الشعب التونسي، والقضاء سيفصل في هذا الشأن، والمصالحة أيضا اعتراف بالدستور والعمل تحت ضوابطه.
شروط للمصالحة وكيف تفهمها الحركة تكشف ان النهضة وفي قراءاتها السياسية الجديدة تعتبر انّ استمرار حالة التجاذب بين «الثوار» و«النظام القديم» تنهك الحركة نفسها كما تنهك الساحة السياسية والبلاد، وهذا التجاذب يمثل حجر عثرة أمام القوى السياسية ليس لتوحيد البلاد وهو ما تعلنه وإنما بالأساس لتوطين نفسها في المشهد وضمان تجذرها فيه.
أي انّ حركة النهضة وبعد سنوات من الثورة تعتبر أنّ اللحظة الثورية انتهت سياسيا وانه يجب أن يقع صلح بين القديم والجديد تمثل الحركة جزءا منه، على قواعد جديدة للعمل السياسي.
هذا التصور الذي يستدل من خلال تعريف النهضة للمصالحة وشروطها يقابله تصور آخر لدى حركة نداء تونس، يتمثل في طي صفحة الماضي سياسيا، دون الحاجة لمسار العدالة الانتقالية الذي باتت تصريحات قادة الحزب تضعه في خانة التشفي والهرسلة التي تستهدف «بناة دولة الاستقلال وكفاءات تونس».
تصور لا يقوم الا على اعتبار ملف المصالحة ورقة سياسية للتفاوض بها مع وجوه حزبية سابقة اشتغلت مع نظام بن علي لاستقطابها إلى الحزب، وهو ما عبر عنه المدير التنفيذي للحزب في تصريحات صحفية يوم أمس على هامش تظاهرة لحزبه في المنستير، اذ ان حافظ قائد السبسي يرحب بالجميع في حزبه الذي يفتح أبوابه لمن يريد الالتحاق به.
تفاصيل التصريح وما المراد من قوله تنتهي إلى إيضاح ان التصور السياسي للمصالحة وفق ما يعبر عنه قادة نداء تونس ليس سوى ورقة للاستقطاب ووقف مسار العدالة الانتقالية الذي بات يحرج بعضا من قادتها في جلسات الاستماع.
تصور نفعي، وكل تصورات الأحزاب السياسية للمصالحة نفعية، تبحث منها عن الاستفادة وان بدرجات، على غرار حركة مشروع تونس التي قال أمينها العام محسن مرزوق في تصريح بـ«المغرب» أن حركته لها تصور للمصالحة يقوم على عدة جوانب ويراد منها تحقيق عديد الأهداف.
لكن دعوة المصالحة لا تشمل الجميع وفق مرزوق الذي يقسم المعنيين بالمحاسبة الى صنفين، الأول أصحاب المسؤولية الفردية، وهم من سرق أموالا واستغل نفوذه لتحقيق هذا الكسب وعليه ان يحاسب ويعيد كل ما استولى عليه دون سجنه والثاني هم من انتهكوا حقوق الإنسان وهم من يجب ان يحاكموا جنائيا.
أما الصنف الثاني من المسؤوليات فهي المسؤولية الجماعية، اي الإداريين والوزراء والموظفين الذين نفذوا تعليمات، اذ يعتبر ان محاسبتهم غير مقبولة فهم نفذوا أوامر، ولا يجب محاسبتهم كما هو حال الصنف الأول.
ويعتبر مرزوق أن الهدف من المحاسبة ليس العقاب فقط وإنما كشف الحقيقة لمعرفة ماذا حدث وكيف؟ وثالثا جبر الضرر للضحايا على قاعدة العدل، ويربط بين الهدفين، إذ يعتبر انه من الضروري اليوم معرفة من هو الضحية فعليا وانه يجب ان يحدد على قاعدة الحقيقة. قاعدة يعتبرها تستثني من مارس الإرهاب أو كفر التونسيين ومن خطط وحاول تنفيذ انقلابات عسكرية، فهو لا يعتبر هؤلاء ضحايا بالقدر الذي يعتبرهم مذنبين.
ولا ينتهي تصور مرزوق وحركته للمصالحة التي يدعو اليها حزبه عند هذا المستوى فهو يعتبر أن المصالحة تهدف إلى منع تكرار الأخطاء الماضية وهذا لا يتم إلا إن وقع الإسراع في مراحل المحاسبة وكشف الحقيقة والمصالحة، وهو ما يعني ضرورة تجاوز مسار العدالة الانتقالية الذي يعيب عليه مرزوق انه يأخذ الكثير من الوقت ويترك «جراح الماضي» مفتوحة طوال فترة التقاضي التي يتوقع ان تستمر لأكثر من عقدين نظرا لعدد الملفات والقضايا.
لكل حزب فهم محدد للمصالحة ولمن يجب ان تقع معهم المصالحة، هل كل من يمثل النظام القديم أم يقع الفرز بينهم؟ وكيف تتم هذه المصالحة، على قاعدة التجاوز دون حساب أم على قاعد المحاسبة وان تعددت أشكالها وفق كل طرف، ولكن الأهم من التعاطي السياسي المربوط بالمصالح الحزبية وان كانت مشروعة، كيف سيقع التعامل مع تاريخ البلاد وهل سيقع حفظ الذاكرة وحمايتها بعيدا عن رغبة البعض في إلغاء كل ماله صالة بالثورة، التي وبعد 6 سنوات باتت الروايات بشأنها تنظر إليها على أنها خطأ مطبعي يجب إصلاحه.