مية الجريبي: أرى النخل يمشي في الشوارع ...

لكل جيل أبطاله وإيقوناته، وجيلي أنا الثلاثيني، كان له من الحظ أوفره بان صاحب عمالقة صنعوا أحداثا ساهمت بتراكمها في تغيير تاريخ منطقة، وأجملهم كانت تلك السيدة التي تسلب لبكّ ما إن تجالسها لثلاثين ثانية، فهن كافيات لتصبح مفتونا بمية الجريبي وتغني عن ظهر قلب

«مي مي يا محلاها» وأنت تراجع أحداث ثلاثين سنة كانت فيها الجميلة مي في الصفوف الأول الحالمة بتونس أجمل.

لم تكن ولن تكون الكتابة عن مية الجريبي ومسارها السياسي والنضالي، بالأمر السهل. فلا يمكن ان يتجرد الكاتب عنها من ذاتيته وانبهاره بها، حتى في اشدّ الكتابات الناقدة لخيارات سياسية أتاها الحزب الجمهوري، ومن قبله الحزب الديمقراطي التقدمي.

مية الجريبي القادمة من الداخل التونسي، وتحديدا من مدينة بوعرادة بولاية سليانة، لتستقر مع أهلها في ستينات القرن الماضي في رادس مدينة العمال و«البروليتاريا» وجنة اليسار في الشمال التونسي.

يسار اثر في مية كما اثر والدها اليوسفي، الذي انتصر لصالح بن يوسف في صراعه مع الحبيب بورقيبة. لتتبنى مقولات العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة دون أن تتغرب عن بيئتها المحافظة، لتؤثر لاحقا في جيل بأكمله، جهل جلّه انه عاصر إحدى إيقونات تونس المعاصرة.

فقد ارتبط اسمها بنضال الثمانينات، تاريخ التحاقها أثناء فترة دراستها الجامعية بصفاقس، بفرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سنة 1980، لتنتصر للحقوق والحريات، قبل ان تكون من مؤسسي حزب «التجمع الاشتراكي التقدمي» برفقة أحمد نجيب الشابي في 1983، ليتغير اسم الحزب الى الحزب الديمقراطي التقدمي.

مية التي تولت مسؤولية الإعلام في الحزب، منذ ان نالت عضوية مكتبه السياسي عام 1986، كانت من القلائل الذين عارضوا نظام بن علي وسياسته الاستبدادية، ولم تدخر شيئا في معركتها التي أنهكت جسدها.

جسد كان في 2007 سلاحا لمواجهة نظام بن علي، ووسيلة للدفاع عن مقر الحزب والصحيفة، لتعلن مية الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي يومها، عن دخول في إضراب جوع وحشي، رفقة احمد نجيب الشابي. معركة انتهت وقد انتصرت مية ورفيقها، واجبرا نظاما دكتاتوريا على التراجع عن محاولة إخراجهم من مقرهم.

لم تكن تلك المعركة الوحيدة التي كسبتها مية الجربي في حربها مع نظام لم يستطع ان يحطم صورتها، ولا ان يروضها، فحمل عداءا لها وضغينة اللئيم للكريم. فمية التي خاضت معارك بلا هوادة مع بن علي ورموز نظامه وأتباعه منذ 2000، وشهرت بكل تجاوزاته، من مصادرة للحريات، وتزوير الانتخابات واختلاس للمال العام.

تشهير لم تتركه الجريبي حبيس الصالونات السياسية، بل نقلته للارض، لتجوب شارع الحبيب بورقيبة وهي توزع صحيفة الموقف، في تحد لمحاولة مصادرة الصحيفة ومنع توزيعها في تونس، بعد ان باتت ابرز اسلحة المعارضة في صراعها مع بن علي.

لتكسب المعركة مرة اخرى، وتفرض على النظام التقهقر امامها، كما تقهقرت قوات الامن من أمام باب مقر الحزب في جانفي 2011، وتنطلق مسيرة تزعمتها مية لتقف أمام مبنى وزارة الداخلية ، ليختفي جسدها الصغير في الحشود.

لان الشمس لا يسعها أن تفتقدها كثيرا، رفعت الجريبي على الاعناق لتكون ضالة وبوصلة الثائرين، وظلت كما هي، عنوانا لمن يبحث عن صاحب مبدإ في السنوات الست الماضية.

تضحيات مية لم تتوقف على زمن بن علي، بل استمرت بعد الثورة التي رفع بعض الوافدين الجدد عليها شعارات تقدح في المرأة التي ظلت وفية لقناعتها، وتمسكت بان المبادئ لا تتجزأ ولا يستثنى منها احد، حتى أولئك الذين أذوها في السابق.

لتقف مع قلة ضد حل التجمع الدستوري الديمقراطي، لإيمانها بان الحرية للجميع، وان معاقبة الكل على أخطاء الفرد، دكتاتورية حتى وان صدرت عن ثائرين، الذين صمت أذانهم عن قول الجريبي، التي ظلت مقتنعة بخيارها بعد مرور سنوات، خيار الدفاع عن حق التجمعيين في الترشح للانتخابات والتواجد في الساحة السياسية.

خيار منطلقه الإيمان بان الضغينة لا تولد إلا أخرى، وان الحق لا يقوم على منطق العقاب الجماعي، ولا ديمقراطية في بلد يصادر فيها حق مجموعة لأنها أخطأت في السابق. فوحدها العدالة الانتقالية ومحاسبة من تورط في الفساد وصنع القرار هي الطريق الى تونس تتسع لكل أبنائها.

تونس التي حلمت الجريبي بانها تتسع للجميع، لم تكن في لحظتها الثورية بقادرة على استيعاب خطاب عقلاني، فعاقبت مية ورفاقها في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، الذي لولا صوت الجريبي ورفاق لها في المعارضة ارتفع لشهدنا ما لا يحمد.

صوت واحد وراي واحد وجماعة واحدة، هذا ما كان يعد له، وهذا ما تحدته الجريبي وفرضت على الجميع الاستماع الى صوتها، صوت المعارضة التي وقفت خلف مية في انتخابات رئيس المجلس، ومنحوها 68 صوتا مقابل 145 لصالح مصطفى بن جعفر أتت من المؤلفة قلوبهم.

مية التي كانت رمزا للمعارضة ضد نظام بن علي حافظت على رمزيتها وظلت رمزا لمعارضي حكم الترويكا وخيارات التحالف الحاكم التي اعتبرتها مية وغيرها تهديدا لمسار الانتقال الديمقراطي وتهديدا لمكاسب الثورة.

فظلت ترفع صوتها بان الحلم على هذه الأرض جائز وان غدا أفضل وتونس أجمل ممكن، وكلما ارتفع الصوت اتضحت الصورة أكثر بوضوح مواقف المرأة التي أسرت أبناء جيلي يوم التحق سريعا بمظاهرات 9 افريل 2012، قادمة من أشغال مؤتمر حزبها.

التحقت لتجعل من جسدها أداة للدفاع ضد عنف البوليس وروابط حماية الثورة ضد المحتجين على المنحى الذي سلكته حكومة الترويكا، لكون وجودها قارا في كل الاحتجاجات والمبادرات السياسية الباحثة عن العودة بمسار الثورة التونسية الى سكته.

مسار عاد ولكن المكينة الانتخابية قررت ان تعاقب الجريبي، فأبعدها الصندوق في 2014 عن مجلس نواب الشعب، لتفتقدها جدران المجلس قبل ناسه، ونفتقدها نحن المأخوذون بها، وبصمودها وثباتها على الأرض التي سقط فوقها الأغلب.

مية ليست كغيرها، لا احد يشبهها ولا كلمة تختزلها، مية نص صعب ان يكتب دون حبّ، مية قصة تروى للقادمين لتخبرهم انك عشت في زمنها ووقفت الى جوارها وسرت خلفها في مظاهرات زمن القمع والثورة، قصة خاتمتها ان صندوق الانتخابات أحمق، وقلوب الناس هي الحق.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115