13 كلم من المطبات والحفر، هي الجزء الاول من الرحلة الى مدينة يؤمن اهلها انهم « يقطنون خارج حدود الوطن». «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله». مرت ساعة اولى وانتصفت الثانية ولم تلح بعد مدينة المكناسي، التي يفترض ان لا تتجاوز الرحلة اليها 45 دقيقة.
لكن الكلمترات الـ57 امتدت، كما امتدت موجة الاحتجاجات في المدينة لتصل شتاءا باخر، فمنذ 3 فيفري 2016 والمدينة تصبح وتمسي على نسق الاحتجاجات. لكنها ومع الذكرى السادسة للثورة شدت الانظار اليها، فمالذي قد يدفع 22 الف ساكن لان يعلن باسمهم «عصيان مدني» وخروج من حدود الدولة يوم 30 ديسمبر 2016.
دولة تقبع مدينتهم في قلب خارطتها، منتصفة الطريق بين مناجم الفسفاط ومصانع تكريره، ومنتصبة لتراقب حركة العبور على الطريق المغاربية، التي تربط بين الجزائر وعاصمة الجنوب التونسي صفاقس عبر الطريق الوطنية 14طريق حالها ليس افضل من حال بقية الطرقات التي تصل المدينة باربع ولايات، هي سيدي بوزيد وقفصة والقيروان وصفاقس .
رفع سائق السيارة من سرعته قليلا، بعد ان ابصر مباني المدينة التي يقسمها طريق رئيسي الى جزئين، غربي وشرقي، طريق كان يفترض ان يكون شريان الحياة ومركز المدينة الصاخب، لكن كل شيء مغلق، والحركة محدودة فيه، وحدها السيارة التي تقلنا كانت تجوبه قبل ان تتوقف بدورها ويسري البرد في محركها كما سرى في اجساد سكان المدينة وفي جدران المنازل التي يمكنك تميز الفخمة منها بسرعة، وهي تعد أقل من اصابع يد واحد.
فيما تستبقى اصابع اليد الاخرى لاحتساب المنشآت الصحية العمومية والخاصة في المدينة، فبالابهام يحتسب المستشفى الجهوي بالمدينة على هناته، فهو قليل التجهيزات تغيب عنه سيارات الاسعاف المجهزة كما ان طب الاختصاص شبه منعدم فيه، مستشفى سجل منذ شهر وفاة امرأة وهي تضع وليدها، وبالسبابة تحتسب عيادات الطب العام الخاصة الثلاث، وبالوسطى تحتسب الصيدليات الثلاث إحداها ليلية.
منشآت احتسبها عبد الحليم حمدي بيده اليسرى، بعد ان كسرت يمناه يوم 10 جانفي الجاري، في مقر ولاية سيدي بوزيد، التي قصدها صحبة عشرات اخرين ليحتجوا في بهوها، ويعلنوا مجددا انهم في عصيان وانهم سيتجاوزون القانون مرارا وتكرارا وما على الدولة الا سجنهم، طالما انها لم تستطع ان توفر لهم حياة كريمة.
كرامة يقول عبد الحليم الذي تجاوز عقده الرابع، انه لا يرغب في سواها، وان شهادته الجامعية لم تسعفه. منذ 17 سنة ظل حاملا لها حالما بوظيفة تقيه شر الحاجة والجوع الذي دفعه و35 اخرين الى اعلان اعتصام «هرمنا»، اعتصام كل من فيه تجاوز سنه 35 سنة، افضلهم حظا رافقته شهادته الجامعية في مشوار بطالته ثماني سنوات.
سنوات مرت قبل الثورة وبعدها مرت 6 سنين، على 15 فتاة و21 شابا، وهم عاطلون عن العمل، فاختاروا ان يكون بتوقيت العمل الاداري الذي حرموا منه، توقيت اعتصامهم الذي اتخذ من مقر المعتمدية مركزا له، فهم يفتحونها مع اول موظف ويغلقونها مع الحارس بنهاية الدوام. وهم على هذا الدأب منذ فيفري الفارط، لتتازم الاوضاع تدريجيا وتصل الى مرحلة العصيان الذي وجد له انصارا في المدينة التي تبلغ نسبة البطالة فيها 31،2 بالمئة، لترتفع الى اكثر من 57 بالمئة لدى اصحاب الشهائد العليا الذين يقدر عددهم باكثر من 1700، وفق احصائيات لمنظمات المجتمع المدني المحلية.
منظمات وجدت نفسها تعوض اجهزة الدولة التي غاب ممثلها، المعتمد عن المدينة منذ اشهر، ولم يعد للسلطة الا مركز امن يضم طاقما محدود العدد قبل ان ترسل تعزيزات امنية كانت سببا في تفاقم الوضع واندلاع مواجهات، فقبل موعد الـ10 من جانفي، لم تشهد المدينة التي عاشت لاكثر من شهرين على وقع احتجاجات وتحركات يومية كانت تردد فيها شعارات تختزل بـ «غياب الدولة» بلغت مرحلة طرد الوالي عند قدومه للمشاركة في مهرجان محلي. عملية طرد اعتبرتها مجموعة من الشباب، امرا طبيعيا، فهم سئموا «سلطة الوهم» الغائبة عنهم. سلطة يقولون انها تاتي للافتتاح والاختتام، لكنها تغيب ان تعلق الامر بالتفاوض حول الملفات التنموية والاجتماعية وان قدمت شيئا لهم فهي الوعود المزيفة، التي ملئت بها بطونهم.
بطون بالكاد تمتلئ بكفاف الخبز فيما عقول اهلها منشغلة بتعدد ما تنام عليه المدينة من موارد منجمية واولية هامة، فهي تحتوي على منجم سطحي للفسفاط، كميات هامة من الجبس، مقاطع رخامية ممتدة، مواد اولية لصناعة الاجر والقرمود والاسمنت الابيض، مقاطع رملية ذات جودة عالية تستخدم في صناعة البلور، مساحات فلاحية شاسعة.
ثروات يتكلم عنها شباب المدينة وشيوخها، الذين ساندوا ابناءهم في الاحتجاج، على غرار الشيخ الطاهري الذي تجاوز عتبة الـ60 سنة، لم يجن من الدولة غير «تعليم ابنائه» ويوم انهوه، القت بهم في البطالة، دولة قال ان علاقته بها قائمة على ما يدفعه من اداءات ومخالفات، يامل ان تنام عينه وقد عوضته في ابنائه بالشغل والكرامة.
ابناؤه الخمسة، ثلاثة فتيان وفتاتان، إحداهما ماتت، تخرج منهم ثلاثة وهم عاطلون عن العمل منذ سنوات. عطالة ارهقت الاب الذي لم يعد بمقدوره العمل الشاق الذي امتهنه منذ صباه وامل ان يتخرج أبناؤه فيستريح من الشقاء لكنه ظل مرافقا له واعياه وهو ينظر الى اصغر ابنائه ولا يعلم ان كان يسر بنجاحه في دراسته الجامعية ام يشفق عليه وعلى نفسه من ملاقاة مصير من سبقوه.
فللشيخ الطاهري ابن، قيس الطاهري تخرج منذ 8 سنوات ولا يزال عاطلا عن العمل، فشهادة الاستاذية في الموسيقى لم تحمل معها اي جديد للشاب الذي اختار العود والغيتار للتخصص فيهما، وبحث عن اقامة مشروعه الخاص، معهد للموسيقى في المدينة، فقدم دراسة مشروع وأعد الوثائق الخاصة قبل ان يواجه عقبة البيروقراطية، فهو لم يحصل الا على موافقة بتقديم 20 الف دينار كقرض على 7 سنوات مقابل تخليه عن الترشح الى اية مناظرة للانتداب في الوظيفة العمومية. مبلغ لم يصل الى ثلث ما قدرته دراسة مشروع اجراها الشاب مع مركز مختص في بعث المشاريع، فصرف نظره عن بعث مشروعه وبات يبحث عن وظيفة عمومية مثله مثل بقية شباب الجهة الذين لم يغادروها بعد.
ففي المكناسي، كل شي وحيد متفرد، بنك وحيد، مكتب بريد وحيد، شركة خاصة وحيدة مختصة في الضمائد الجبسية، وطاقة تشغيلها متدنية، شركة ظلت تشتغل دون ان تعطل حركة الاحتجاجات من نسقها، فالمحتجون وفق اقوالهم حريصون على ما تمتلكه المدينة من منشآت، رغم قلتها. قلة وعدوا في 2012 انها ستزول، وان الارض التي يقفون عليها ستصبح ارض رفاه، وان المنطقة الصناعية التي ظلت وعدا لسنوات ستجد طريقها للنور، وان المستشفى سيجهز ويطور، وان مكاتب الخدمات الادارية ستفتتح فروعا لها في الجهة وتقي اهلها مشقة الانتقال الى مدينة سيدي بوزيد لقضاء شؤونهم.
لكن السنوات مرت، ولا شيء تحسن، بل برك الطين ملأت المدينة والطرقات المهترئة باتت مسالك وعرة يشقى العابر على قدميه فيها، وانطلاق استغلال منجم الفسفاط بالجباس تأخر، مما فاقم من هواجس الـ93 ناجحا في مناظرة الانتداب التي اجريت في 2013، وظهرت نتيجتها النهائية في نوفمر 2016.
نتيجة ظن خليل المسعودي انها ستكون بمثابة طوق نجاة له ولاسرته المتكونة من اربعة افراد، عمل قار واجر يكفيهم الحاجة والعوز، لكنه سيظل ينتظر الى ان تتوصل شركة فسفاط قفصة والدولة التونسية الى تسوية مع عدد من عائلات منطقة الجباس، رفضوا العرض الذي تقدمت به الشركة كتعويضات.
اذ ان ملف التفويت في الاراضي لانطلاق استغلال منجم الفسفاط تعطل بسبب رفض حوالى 20 % من مالكي الاراضي التفويت فيها مقابل تعويضات اعتبروها غير معقولة، من هؤلاء شريف الزارعي الذي كان ممثلا للعائلات في جلسات التفاوض حول قيمة التعويضات، التي قدرتها السلطات بـ250 دينار للمتر المربع بالنسبة للمنازل، وبـ12 الف دينار للهكتار.
تعويضات قال عنها شريف انها لا تقترب من القيمة الفعلية، وان على الدولة ان تدرك انها تخرج مواطنين من منازلهم لتلقي بهم في الشارع، فالمبالغ التي يعرضونها لا تكفي لشراء منزل جديد، الذي تقدر تكلفة المتر مربع في حالة بناء باكثر من 400 دينار، مفاوضات استمرت ليقع التوصل الى مقترح من المالكين بجعل قيمة التعويضات تتراوح بين 60 الف و70 الف دينار للمنزل، بعد ان كان لهم اتفاق مع السلط المحلية بتقديم قطع ارض لكل صاحب منزل مساحتها 200 متر مربع.
حل حينما انطلق تطبيقه في فترة سابقة، تم التلاعب بقائمة من سيتمتعون به وفق شريف الذي يؤكد ان 13 قطعة ارض تم الاتفاق على ان تقدمها البلدية كتعويض لاصحاب المنازل في منطقة الجباس، تلاعب مسؤولون محليون فيها وقاموا بمنح 7 قطع ارض لاشخاص من خارج قائمة المتضررين من التفويت، مما دفع اصحاب المنازل الى الغاء الاتفاق والمطالبة بتعويض مالي يقومون هم بانفاقه على الوجه الذي يرتضونه.
استمرار جدل التعويض عن المنازل يقترن باستمرار المفاوضات بشان التعويض عن الاراضي الزراعيةو فالسلطات المحلية تشير الى انها حددت مقدار التعويض بالاستناد لخبراء وانها لا تستطيع ان تقدم تعويضات اكبر لمن رفض التفويت مخافة ان يطالب السابقون باعادة تقييم التعويضات.
حجة يقول شريف انها خاطئة، وهو يشير الى ارض اجداده في منطقة الجباس، ارض زراعية ممتدة يقول ان تقديم 12 الف دينار كتعويض عن الهكتار بخس، وان الدولة تريد ان تجعل سعر الارض البور وسعر الارض الزراعية واحد، فوفق قوله وهو يشير الى اراضي غير صالحة للزراعة تمتد لتحيط بمنطقة منجم الفسفاط، تمتع اصحابها بالتعويض المقترح عليهم، كيف يستوى «الزيتون والسرول؟ ».
رفض هذه العائلات الخروج من أراضيهم دون تعويضات تعادل قيمة اراضيهم لم يولد حنقا لدى خليل او اي من بقية المنتدبين الـ93، فهنا الجماعة تدعم الجماعة، المنتدبون يدعمون اصحاب الاراضي الذين رفضوا مقدار التعويضات وعاملو الحضائر دعموا المعتصمين في مقر المعتمدية، وهو اعتصام اضر بهم وتسبب بتاخر صرف رواتبهم من قبل الولاية، التي تشير الى ان عملية تسجيل الحضور لم تتم بسبب الاعتصام. دعم وتضامن، نجم عن قناعة بانهم يواجهون «ظلما» بمفردهم، لا نصير لهم الا انفسهم.
عند التقاطع بين الشارع الرئيسي الذي اغلق ببقايا العجلات المطاطية المحترقة والشارع الفرعي الذي ينتصب فيه مركز الامن، تجمع بعض الشباب كاشفين عن وجوههم رغم انخفاض درجة الحرارة الى اقل من 3 درجات، غير بعيد عنهم يقف اعوان الامن متأهبين، فالليل حل، وبحلوله تتجدد المواجهات بين المحتجين والامن.
محتجون يؤكد بعضهم انهم لم يغادروا بيوتهم في برد الشتاء الا لحراسة مؤسسات عمومية والمحلات التجارية مخافة ان تقوم «مليشيات» باقتحامها ويقع «شيطنة» التحرك، وان لا صراع بينهم وبين اعوان الامن، ينقطع الحديث لتدوي طلقة لرصاصة صوتيه اطلقها عون امن لتفريق مجموعة صغيرة من الشباب تجمهرت امام المركز لتطالب باطلاق سراح موقوف لم يتضح ان تم ايقافه على خلفية تحرك ام لتجاوز للقانون.
يسرع الجميع ليتفرق قبل ان يعيدوا لم صفوفهم، وتنطلق عملية غلق الطرقات وإضرام النيران في العجلات المطاطية، وتعود المكناسي الى ما كانت عليه في الايام الخمسة الماضية، مدينة جاع أهلها فأسمعوا صراخهم للراقدين بعد ان اعياهم بحثهم عن حلول بمفردهم لمشاكل لا تعد في مدينتهم التي افتتحت قبل 3 اشهر دار الخدمات الضمان الاجتماعي بمجهودات محلية وحملة تبرعات لتوفير المقر وتجهيزه.
مجهوداتنا الخاصة هي كلمة كثيرة التردد في المدينة التي تحتضن مهرجانا دوليا للخيول العربية الاصيلة ويطمح اهلها ان يحظى بدعم اكبر، لكن مجهوداتهم لا تكفي في ظل وضعية قانونية تعاني منها جل الاراضي الفلاحية، حيث تحول ازمة الملكية دون تطوير القطاع في جهة تضم 40 الف هكتار من الاراضي الزراعية الخصبة. ولكن رغم ذلك فهي لا تنتج اكثر من 19 الف قنطار من الحبوب و12 الف طن من الخضروات. كما انها تضم حوالي 12 الف هكتار من المراعي لكن لا يتجاوز عدد الابقار فيها 200 بقرة و20 الفا من الاغنام، ودون ان يكون بها مركز لتجميع الحليب.
يدثر الشيخ الطاهري ببرنسه لعله يدفئه، يبتسم قليلا وهو ينهي كلماته، هذه ارضنا وقد جار علينا من مر بها، ما اخافه ان يصيب الحيف ابنائي وان يستمر الوضع كما هو الان، فان حدث ذلك ستكون «مصيبة»، ويظل السؤال ما الذي يدفع باهلي المكناسي الـ22 الف الى العصيان؟؟.