صفاقس 2016: إدارة شبه معطّلة ودولة شبه غائبة

حملتني مهمّة عمل منذ أقلّ من سنة إلى مدينة قسنطينة بالجزائر عندما كانت عاصمة للثّقافة العربيّة لسنة 2015. وطوال تلك الرّحلة، كنت أتساءل عن معنى أن تحتفل مدينة تعيش تحت وطأة ديكتاتوريّة غرّبت أهمّ مثقّفيها وفنّانيها، بالثّقافة. وببذرة عظمة الشّعب التّونسي صاحب

ثورة الدّيمقراطيّة الأبيّة، اعتقدت حينها أنّ الأمر لن يعدو أن يكون أكثر من مجرّد لافتات برّاقة.
منذ نزولي بالجزائر العاصمة، وأنا أتعجّب لحجم التوظيف لمثل هذه التظاهرة أمام لافتات «ملحمة قسنطينة الكبرى، ملحمة كلّ الجزائر»، و»قسنطينة 2015، عالم في مدينة»، و»أنا جيتك يا قسنطينة باش نزور، داويني جاوي وبخور». لم أكن أدرك حينها أننّي أمام رحلة روحيّة حقيقيّة احتضنتها مدينة واستبطنتها دولة بأكملها لتنزع عنها صورة الدّيكتاتوريّة التي تعاني من الإرهاب. كانت رحلتي من العاصمة إلى هذه المدينة وكأنّني أحجّ ثقافيّا إلى قسنطينة بكلّ ما تحمل كلمة «الحجّ» من معان روحيّة.

قسنطينة مدينة الجسور، صاحبة الكتاب العملاق الذي يتوسّط شارعها الرّئيسي، كانت عروسا عربيّة زفّتها كلّ الجزائر كقربان للثّقافة العربيّة. مدينة لا تنام بتظاهراتها وبكلّ المثقّفين الذين حجّوا إليها من كلّ ربوع الدّول. بنفاق الدّيكتاتوريّة، عادت الجزائر لتحتضن على مدى سنة مثقّفيها، ولتصنع لنفسها صورة الدّولة المتفوّقة على الإرهاب والصّانعة للثّقافة. انطلقت حينها التّظاهرة فعليّا في شهر أفريل وسبقتها بشهور ورشات عمل لإعادة ترميم الفضاءات الثّقافيّة وتوفير التّجهيزات وتعبيد الطّرقات وتركيز كاميرات مراقبة في الشّوارع الكبرى وعمل مستمرّ للتّحسين الحضري تبنّته على حدّ عبارة محافظ المنطقة حينها كلّ الدّولة، «فقسنطينة يجب أن تكون زوينة بوصفها مرآة الجزائر».

اليوم، وبعد بضعة أشهر، وفي نفس المناخ العالمي، وربّما أخطر، صفاقس بصفة خاصّة وتونس ككلّ، تأخذ المشعل من الشّقيقة الجزائر بعد أن تتالت علينا الضّربات الإرهابيّة، فتكون بذلك هذه الدّورة هديّة لتونس ككلّ لتشعّ دوليّا وتجعل من مجرّد تظاهرة ثقافيّة عربيّة فرصة حقيقيّة ترسل من خلالها إشارات واضحة للعالم كدولة قويّة لن ينال منها خطر الإرهاب. من المفترض أن تكون دورة صفاقس 2016 احتفالا بقلعة الاجداد، مدينة العلم والعلوم والمكتبة العمومية ودور الثقافة وسور المدينة العربي كنقطة إشعاع لتونس ككل. «من المفترض» لأنّ الحقيقة غير ذلك تماما.

صفاقس ومن ورائها تونس ككلّ، خسرت في التحضير لهذه التظاهرة معركة الوقت، وقد تستمرّ في السير بخطى ثابتة نحو خسارة رهان الإنجاز الأخير إذا تواصل غياب الرؤية الحالمة لسلطة الإشراف لهذه التظاهرة وتقييدها في بوتقة مجرد تظاهرة ثقافية محلية لجهة تعاني من التهميش من جهة، وإذا تواصلت حالة الهيئة التنفيذية المنظمة على ما هي عليه من جهة اخرى. التحضيرات لا تزال في مرحلة الورق، إستقالات ثقيلة تتتالى وتململ في صفّ العديد من الاعضاء يُعبّران عن وجع حقيقي في عمل هذه الهيئة. إتهامات بسوء تصرّف مالي وتفرّد بالقرار وسقوط هذه التظاهرة ومن ورائها الاموال العموميّة ضحيّة الشخصنة والمصالح الضيقة والقرارات الإرتجالية وحتّى غياهب «الإدارة العميقة» ! أليس من المفترض أن تلقى الثقافة حظّا أوفر في الديمقراطيّة؟ أليس من المفترض أن تنجح الثقافة في المعركة ضدّ تهميش الجهات أين فشلت الإرادة والرؤية السياسيّة؟

نحن على مشارف شهر أفريل والمجتمع المدني في صفاقس بيقظته المعتادة يحذّر، الهيئة تعد ببدء التظاهرة في أواخر جويلية والوقت يمرّ ولا شيء ينبئ ببوادر تظاهرة تكون في حجم أحلام قلعة الاجداد ولا في حجم تطلعات تونس. صفاقس 2016 كتونس ككلّ، تجمعها إدارة شبه معطلة وتحكمها دولة شبه غائبة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115