الحمد لله (2): في العضّ على الحياة

ها أنا وصحبي في صباح يوم أحد، في مقهى، نشرب قهوة. كلّ صباح يوم أحد، أمشي وبعض من صحبي الى المقهى. كلّ يوم أحد، صباحا، أقضي ساعة أو أقلّ أو أكثر في «مقهى البلاستيك»، في أحد شوارع أريانة. لا أدري لماذا نمشي الى هذا المقهى. لا أدري لماذا اخترنا هذا المقهى الشعبيّ.

لعلّها الصدفة. لعلّها أسعاره المنخفضة. في مقهى البلاستيك، على الرصيف، أجلس أنا وصحبي على كراس بلاستيكيّة نشرب ماء وقهوة. كلّ صباح يوم أحد، نلتقي. نقضي معا ساعة. نتبادل الرأي. نحكي في كلّ ما هبّ. نقول في ما لا ينفع.نضحك بلا سبب، طولا وعرضا...

أحيانا، نتكلّم في السياسة وفي الدين وكيف أصبح أهل السياسة والدين في تكالب، في نفاق مستمرّ. ينصبون المكائد لكسب النفاذ والسلطة. يناورون لكسب الرفاه والعزّة... قتل الدينفُ والسياسةُ تونس. أفسد أهل السياسة والدين طباع الرجال والنساء أيضا. ضلّوا وأضلّوا الوطن ودفعوا بالناس في السراديب المظلمة، في السبل المغلقة...

في بلاد الجهلة، يعلو الدين وترتفع راياته المقدّسة. في بلاد الفقر، يأكل السياسيون الأخضر وما تبقّى ويصيب العامّة فاقة وبؤس. في البلاد المتخلّفة، تعلو أيدي المرتزقة. في تونس، منذ الثورة ومن قبل، أصبح الدين مصدر رزق. أصبحت السياسة مصدر سيطرة. في البلاد المتخلّفة، ترى الهلال والسيف في اتّصال مرصوص، في تآزر، يشدّ بعضه بعضا. منذ الثورة، ترى أصحاب القصبة في وفاق مع أصحاب الصومعة. كلّ فوق المنبر يدعو. كلٍّ من أمامٍ ومن خلفٍ يفتي، يناورللكسب، للسيطرة...

في مقهى البلاستيك بأريانة، كلّ يوم أحد صباحا، أنا وصحبي نلتقي، نشرب ماء وقهوة. نتحدّث في كلّ أمر. في الطقس، في المطر الذي لا يأتي. في غلاء العيش. في الفوضى. نسبّ زندقة السياسيين ونفاق المتديّنة. نلعن من نحبّ ومن لا نحبّ والناس والعرب والبربر.ثمّ نمشي الى النساء وما كان لنا معهنّ من مدّ وجزر. كلّ يقول رأيه. كلّ يحكي ما كان له مع زوجته من علاقة متميّزة، متقلّبة... في كلّ صباح يوم أحد في مقهى البلاستيك، تكون المرأة حاضرة، قائمة، منتصبة. المرأةعندنا ركن قارّ ومحور مهمّ...

كان صاحبنا حامد رجلا متّزنا، يشتغل مهندسا. كان يؤدّي صلواته الخمس ويصوم الشهر وفي الشهر يصلّي التراويح المرهقة. حامد رجل متديّن. محبّ للدين ولما طاب من الأكل وما لذّ من الشرب. هو يؤدّي الفرائض والنوافل وما أمر به ربّي ونبيّه.هو عيّاش، يحبّ الحياة الدنيا.كان يحفظ القرآن. يذكّرنا بما قاله صاحب العرش من آيات وما كان في الآيات من قصد ومن عبرة. ما كان حامد بخامل، متزمّتا. كان عاشقا للحياة وللنساء وللأشياء الأخرى. يغنم منها ما استطاع، كلّما سنحت الفرصة. صاحبي رجل أنيق. يلبس أحسن كسوة. يمشي في الشارع مستقيما وله وقار وهيبة. يتكلّم لغة مهذّبة. يضحك سرّا. في وجهه وداعة وفي عينيه زور...

عن صلته بامرأته، كان حامد يقول ويؤكّد: «اسمعوا أيّها الجمع وعووا وخذوا منّي هذه الحكمة، مسلّمة: من استرجل في بيته أخلاه وخرّبه. فانتبهوا وتبيّنوا. من أراد أن يسترجل مع زوجته فلسوف يخسر دنياه ولن يفلح أمره. في البيت، عليكم بالطاعة ثم الطاعة. قولوا «نعم» وبنعم ترتاحوا وتنعموا. «ويضيف» أنا لا أجادل. لا أعاند. لا أرفض طلبا. كذلك استطعت كسب هنائي وعشت سعيدا، مطمئنّا.» نضحك من حامد وقد انتصب واعظا، اماما فقيها...

كنّا جميعا مقتنعين، مؤمنين أنّ الطاعة هي السبيل الى النعيم في الدنيا وفي الآخرة أيضا. كنّا جميعا نسعى لإرضاء زوجاتنا حتّى نحيا. أمّا العروسي، وكنّا نسمّيه عروسيّة، فكان على عكس حامد، في هيج مستمرّ، في عناد،في حنق، يعارض كل رأي، يردّ كلّ قول. وبقدر عناده المستمرّ، تراه في بيته، مع زوجته، نعجة. في خنوع، في ريبة، لا يجادل ولا يرفض لها طلبا. ان حصل وشاكس مرّة، تلقاه في الغد في ندم، يرجو غفرانا ويطلب معذرة...

لا تأتي النعاج الى مقهى البلاستيك. يوم الأحد صباحا يمتلئ المقهى بمعز كثير وقد جاء من كلّ عمر. شعب المتقاعدين يملأ المقهى. أنا حديث العهد بالتقاعد وكذلك صحبي. نحن مازلنا في أول المرحلة ولم يأخذ منّا الكلل مأخذا. مازلنا،عامّة، في صحّة مرضيّة. فقط، بعض الضجر بدأ يدبّ وهذه السنون تسكن الجسم،تثقله شيئا فشيئا...

نحن متقاعدون وهذه الأسابيع والأشهر تتتابع دون أن يكون لنا فيها شأن أو خصلة. كلّ الأيّام تمشي رتيبة كالأيّام الأخرى. تجري في نفس السبيل، على نفس النسق، في نظام مفزع. التقاعد رتابة كلّه وفي الرتابة عذاب وموت. لمّا يستقيم التعوّد ويصبح الزمن خطّا، مسطرة، ينتهي الحسّ وتكون الأيّام مرهقة. بلا أمل وبلا غاية تمرّ الساعات بائسة، منهكة. بلا حبّ، ينتهي العمر وتغدوالحياة مفزعة...

في مقهى البلاستيك، كلّ يوم أحد، صباحا، أشرب وصحبي قهوة. خلال ساعة أو أكثر أو أقلّ، نتحدّث في كلّ أمر. نحكي في كلّ شأن. نقول سخافات وسخافات أخرى. في المقهى، يجلس المتقاعدون حلقا، حلقا. كلّ جماعة لوحدها،في نفس المكان، في نفس الطاولة. أنظر في المتقاعدين وقد مشى بهم العمر. يحملون عسرا. أجسامهم متعبة. أحيانا، أغادر صحبي. التقي بالمتقاعدين حولي. أتبيّن. أتلمّس ما في وجوههم من ارهاق وفي أجسامهم من أرق. وجوه المتقاعدين صفراء، بيضاء كجدران المقهى. في أعينهم ضياع وغيب. في أيديهم رعشة. في صمت، كلّ يشرب شايا أو قهوة. سكن المتقاعدين تعب مزمن.هذا تدلّى رأسه فوق صدره و قد هزّه نوم أمّا صاحبه فقد شدّ بيمينه عصاه، يجتهد،يمسك بالعصا حتّى لا تنفلت منه. أمّا الثالث فكان يضرب بأنامله ركبتيه، باتزان ولطف. أظنّه يغنّي.أظنّه يترنّم. في الطاولة الأخرى، يقول الجالس لصاحبه فلا يسمع صاحبه له قولا فيصرخ وفي صراخه سعال وحشرجة. أمّا الجالس قبالتي فما انفكّ يحكّ عينه وفي عينه دمعة لا تتنحّى. أمّا جليسه فكان يدفع بيمينه ذبابا لصّاقا فيأبى الذباب أن ينصرف ويبقى... أعود الى صحبي وقد أرهقني النظر. أعود الى نفسي وقد تعبت نفسي ممّا رأت من عسر وبؤس...

يوم الأحد صباحا، في نحو ساعة أو أكثر أو أقلّ،أنا وصحبي نشرب قهوة في مقهى البلاستيك، في أحد شوارع أريانة. كنّا نحكي في كلّ أمر. نقول. نضحك. نقتل الوقت. لا نبالي بما كان حولنا من قذارةوفوضى. ننسى العالم والدنيا وهمومنا الأخرى. ننسى تونس وما فيها من خروق وعربدة. تبقى عالقة في رأسي وجوه المتقاعدين وقد جاءت حالكة، متعبة... لمّا يشدّنا الجوع وهذا قلق يدبّ، ننهض، ننشد العود الى الدار وقد نحّينا عن قلوبنا غمّا.

عدت الى البيت وفي قلبي غصّة. سألتني زوجتي ما لي مغموم وفي وجهي صفرة. قلت لها ما شاهدت في المقهى وما كان للمتقاعدين من شقاء وبؤس... أنا اليوم متقاعد وفي الغد، سأكون في تبعثر، في شدّة. في الغد، سوف تتعثّر خطواتي. أمسح دمعا لا يتنحّى. أغالب ذبابا عنيدا يأبى...قالت زوجتي «دعك من هذا وانظر في نفسك واحمد الله على ما أنت فيه اليوم من خير ومن نعمة». قلت «عن أيّة نعمة تتحدّثين؟» قالت وفي صوتها بعض حدّة «ألا ترى ما أنت فيه من نعمة؟ ألا ترى ما نحن فيه اليوم من صحّة؟ أنسيت لمّا سكنك المرض الخبيث وأقعدك أرضا؟ أنسيت لمّا كنت من الموتى؟ احمد الله كثيرا ولا تنس.»قلت «ما لك تتكلّمين كعجائز الدهر، تؤمنين بالغيب وبما في السماء من ابتلاء ونعمة؟ تنظرين الى الوراء ولا ترين ما نحن فيه اليوم من عسر. نحن متقاعدان وحال المتقاعدين بؤس

ويأس. لو عاينت ما كان في المقهى لشدّك غمّ ليس بعده غمّ...» قالت «مالك والمتقاعدين وما هم فيه من وهن ومن صحّة مضطربة. أنظر في حالك وانعم بما أنت فيه اليوم من عافيّة، من صحّة. ها أنت تمشي الى المقهى. تعود متى شئت. تنام الليل كلّه وفي الظهيرة أيضا. تنهض. تعدّ قهوة. تتكلّم وتسمع الورد يتفتّح.احمد الله كثيرا على ما أنت فيه من قدرة وعلى ما أنت فيه من عافيّة وصحّة... غدا قد تكون مثل هؤلاء. غدا قد يأكلك المرض، قد تلقى عسرا. كلّ هذا ممكن. كلّ هذا قد يحصل في كلّ لحظة. أمّا اليوم فأنت في خير، في عافيّة. فاحمد الله كثيرا على ما أنت فيه من نعمة، على البقاء حيّا. لم التحسّر على ما فات من العمر وأنت تدرك أنّ الحياة أيّام تجري فاحرص يا فتى على أن تحيا، على أن تغنم كلّ ساعة، كلّ لحظة. انظر في ما في الحياة من جمال، من نور، من كوكب يتلألأ، من

زهرة تشرق واقطف من الحياة لذّاتها واغنم من الدنيا ما استطعت. عضّ على الأيّام واسرع وخذ ما في الأيّام من نعيم، من حبّ، من خيرات، من لذّات مختلفة. عش اليوم بقوّة. حبّ بقوّة ودع الزمان للزمان فهذا لك أبقى... نحن نمشي الى ساعة الصفر وحتّى الصفر، يجب أن نحيا.أن نحيا وننعم ونغنم كلّ لحظة...»

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115